الضبعة، تلك المدينة الهادئة التى لا يتجاوز تعداد سكانها 40 ألف نسمة وتتبع إداريا محافظة مطروح، لم تعد كسابق عهدها، فالقرية الصغيرة التى تتسم بالهدوء تبدل حالها منذ الجمعة الماضى، حين اقتحم المئات من أبناء القبائل الأرض المخصصة لبناء أول محطة نووية فى مصر. الهدوء الذى يخيم على المدينة ليلا، وتحديدا بعد انتهاء صلاة العشاء، لا يتناسب على الإطلاق ما تشهده صباحا، حين يتجمع العشرات على طول الأرض المخصصة للمشروع النووى، لاستكمال «الهدم».. البعض أراد أن يكسر حاجزا نفسيا، تمثل فى سور حرمهم من مشاهدة أراضيهم.. والبعض الآخر جاء من أماكن قريبة من أجل للاستفادة من الحدث.. الشباب والأطفال من خارج القرية يحصلون على الحديد المتخلف من عملية الهدم الحديد، وأبناء القرية ينصبون الخيام استعدادا لإعادة بناء منازل.
وما إن تشرق الشمس، حتى يسمع الأهالى أصوات القنابل التى يتم تفجيرها فى أرض المشروع.. القنابل التى اعتاد قاطنو المدينة على سماع أصواتها يوميا وتحديدا من الجمعة الماضية، لا يمكن أن تحدد مصدرها بدقة، فالحقيقة غائبة فى هذه النقطة تحديدا.
الأهالى يدعون أن غرباء يدخلون ويحاولون ارهابهم بهذه القنابل، بينما لم يتم القبض على أحد خلال عمليات التفجير، كما تسمع أصوات أعيرة من رشاشات آلية، لا يعرف مصدرها.
يشعر أهالى الضبعة أنهم مطمع للحكومة، بسبب الموقع المتميز الذى تتمتع به المدينة، فالأرض التى تطل على شواطئ المتوسط واحدة من أجمل الشواطئ فى مصر، «صودرت من أجل رجال الأعمال»، بحسب الأهالى الذين يتشككون فى نية الدولة.
المدينة الصغيرة البعيدة عن العاصمة بأكثر من 350 كم تحولت الآن إلى بؤرة للأحداث، فالمشروع النووى الذى أنفقت الملايين على دراسته، بات فى مهب الريح، وعاد الأهالى إلى أراضيهم وقرروا أن يعيدوا زراعتها وأن يبنوا منازلهم من جديد.
بداية المشروع تعود إلى صدور قرار جمهورى من الرئيس الأسبق انور السادات (رقم 309 لسنة 1981) ولم يكن هناك جديد بالنسبة للمشروع بعد رحيله، على الرغم من أن القرار يقضى بنزع ملكية الأرض من أجل المنفعة العامة.
واستمر الوضع حتى تولى مبارك منصب الرئيس، حيث تم تجميد المشروع، على خلفية كارثة المفاعل النووى الروسى تشرنوبل فى أواخر الثمانينيات، بسبب عدم الخبرة الكافية.
ووفقا لروايات الأهالى فإنهم عانوا من اضطهاد بسبب وجودهم فى هذه المنطقة «التى كانت ترغب الدولة فى بيعها للمستثمرين على غرار بيع أرض شركة ايجوت للسياحة فى سيدى عبدالرحمن، حيث تم نقل العديد من المرافق الهامة إلى خارج الأرض، ونقلت المدارس إلى الجانب الآخر من المدينة، وتم بناء السور حول المنطقة مع فتح منافذ للعزب الصغيرة الموجودة بالداخل».
كان يوم 28 يوليو 2003 عاما مشهودا لأهالى الضبعة، حيث أخلت قوات الجيش المنطقة بالقوة، وهدمت المنازل بالكامل، وطردت الأهالى، بشكل مفاجئ ومنحتهم مبالغ متدنية، مقابل الإخلاء، «فشجرة التين تم تقييمها بسعر ما بين 5 و8 جنيهات، وشجرة الزيتون ب12 جنيها على الرغم من أن الشجرة الواحدة تحقق ربحا فى الموسم مقداره 100 جنيه على الأقل، فضلا عن المبالغ المتدنية التى تم على أساسها تقييم المنازل».
ووفقا لتقرير اللجنة المشكلة من قبل محافظ مطروح الأسبق لتقييم الأرض حصلت «الشروق» على صورة من أعمالها فإن لجنة المعاينة التى زارت الموقع على الطبيعة، «رصدت 459 مغروسا، و379 منزلا يستحق التعويض». التقرير كشف عن أن المبالغ التى تم إيداعها كمقابل للتعويضات «وصلت إلى ما يقرب من 11 مليون جنيه، صرف منها نحو 7 ملايين للأهالى».
مدخل المشروع المواجهة للشارع الرئيسى بالمدينة تهدم تماما، أما محطة توليد الكهرباء الملاصقة للمدخل، فقام الأهالى بتغيير اسمها لتكون «زهرة الخليج، الضبعة الجديدة»، واقفين أمامها لحمايتها على مدى اليوم من أى محاولات للسرقة، خاصة فى ظل وجود غرباء يسعون إلى تحقيق مكاسب من خلال محاولة السطو على المنشآت الموجودة فى المنطقة، وإلصاق التهمة بالأهالى أصحاب الأرض.
ما أن يعلم الأهالى أنك من الإعلاميين، حتى يصحبك أحدهم فى جولة على مدار أكثر من ساعة، ليؤكد لك أن كل ما نشر عن عمليات السرقة، غير صحيح، ليس فقط لأنها ليست من طباعهم وأنهم شكلوا لجانا شعبية لحماية محطة المياه ومحطة الكهرباء، ولكن لأن أرض المشروع بالكامل ليس بها أى مبانٍ سوى مبانٍ محدودة من دور واحد فقط، ويوجد بها مكاتب وأوراق، ولا وجود لأى مبانٍ يوجد فيها مواد نووية وان كل ما يوجد بالأرض باستثناء المحطات لا يتجاوز قيمته الآلاف القليلة من الجنيهات.
المبنى الوحيد الذى تم إنشاؤه من قبل وزارة الكهرباء، بحسب الأهالى، هو محطة لتحلية المياه بالقرب من البحر على أطراف المشروع، وهى المحطة التى يؤكدوا أنها لا تكفى العاملين بالمشروع نظرا لضعف طاقتها الإنتاجية لكنهم قرروا أن يشكلوا لجانا لحراستها، وتم تسليمها إلى مسئولى هيئة الطاقة النووية ومديرية الأمن.
حراسة المحطة كانت من الأهالى الذين حملوا السلاح «الآلى» والذين رفضوا تصويرهم، وقال أحدهم مشترطا عدم ذكر اسمه: «أحضرنا السلاح الآلى من تجار المخدرات، لنتصدى لأى عملية تعدٍ على الأرض، خاصة مع قدوم مجموعة من الغرباء».
الخيام الموجودة فى الأراضى لم تقتصر على العائلات والأسر الذين قرروا العودة للمساحات الشاسعة التى ورثوها عن أهاليهم، ولكن أيضا على الماشية التى رافقتهم، حيث انتشرت الخراف والماعز، لتأكل بقايا الشجر الذى ذبل بفعل الزمن وعدم الاهتمام به.
تقسيم الأراضى بين الأهالى، أوقع مصابين اثنين، مساء أمس الأول، بسبب الخلاف على الحدود الفاصلة بينهما، حيث تبادلا إطلاق النار.
على مدى الشهور الثلاثة أشهر، حاول الأهالى تنبيه المسئولين إلى رغبتهم فى العودة لأرضهم، من خلال اعتصامات وتظاهرات، استمرت فى أكثر من مكان، ليحولوا لاحقا اعتصامهم إلى اعتصام مفتوح أمام مقر الضبعة، مانعين العاملين من الدخول للمشروع، قبل أن ينتهى الأمر باقتحام الأرض.
الأهالى يطالبون بتحسين صورتهم فى وسائل الإعلام، داعين الإعلاميين إلى زيارتهم لكشف الحقيقة، خاصة أنهم عانوا كثيرا بسبب المعلومات المغلوطة التى يتم نشرها عنهم، خاصة من قبل وزارة الكهرباء بحسب تأكيدهم مطالبين بضرورة محاكمة وزير الكهرباء الدكتور حسن يونس، «بسبب المعلومات المغلوطة».
صالح الجالى أحد كبار المشايخ فى المنطقة، قال ل«الشروق» إنهم يملكون عقود تمليك لأكثر من 18 فدانا داخل الأرض ولم يتم تعويضهم عنها، ويملكون ما يثبت ذلك، دون أن يتم تعويضهم، مشيرا إلى أنه جمع أقاربه الذين يشاركونه فى ملكية الأرض وعادوا إليها من جديد.
وأضاف: «مبارك هو الذى اغتصب الأرض، وأجبرنا على تركها، ونحن لن نقبل بذلك مجددا.. وإذا أرادوا من أن نعيد الأرض للمشروع.. فعليهم أن يعيدوا مبارك إلى الحكم إن كان ذلك يرضيهم»، وتابع الجالى المسئولون اخبرونا أن المشروع سيشغل شباب المدينة، ويوفر لهم فرص عمل، بينما تم الاكتفاء بتحويل الموقع إلى مصيف للعاملين بوزارة الكهرباء.
وقال مرعى مصطفى: «الأرض التى نمتلكها وضع يد، ولكنها مسجلة فى الشهر العقارى، ورغم ذلك لم نصرف التعويض». ويوضح راتب عياد: «المحافظة منعت الأهالى من البناء، ولم تمنحنا التعويض الكافى، ومن تمكن مننا من شراء منزل آخر، ترك المكان، والباقى استقر به الحال فى خيمة». وأضاف: «المحافظة فاجأتنا بقرار الطرد من الأرض عام 2003، وتم إجلاؤنا بالكامل خلال ساعة، حتى أن الغالبية العظمى لم تتمكن من جمع متعلقاتها».
وقال هانى عبدالعال: «لى وأسرتى قطعة أرض كنا نزرعها باللوز والتمر، وتم الاستيلاء عليها»، مشيرا إلى أنه يواصل مع الشباب من أبناء عمومته وأشقائه، هدم السور «حتى لا يكون له أى أثر، ويعود الوضع إلى ما كان عليه».
وقال محمد شعبان إن فرحة عودتهم إلى أراضيهم مرة أخرى «تعادل فرحة الشعب المصرى بالتنحى»، مطالبا القوى الثورية «ألا تنساق وراء وسائل الإعلام التى تنشر معلومات مغلوطة.. تعالوا إلى الضبعة لتروا بأعينكم، وتطلعوا على ما لدينا من مستندات».
ويثنى ونيس أبوشكارة على «دور الجيش فى تسليم الأراضى للأهالى، وتعاطف رجال القوات المسلحة معنا»، مضيفا: «بعدما أتينا وتسلمنا المشروع، كان فى حراستهم رغم أن وظيفة الجيش ليست حراسة ارض فضاء». وأوضح: «الجيش سلمنا الأرض بعدما اكتشف أنها فضاء، وليس بها أى شىء آخر يحرسونه.. وغير صحيح أن مشادات وقعت بين الأهالى وبين الجيش».
خيمة أبوشكارة، وضعت عليها لافتة شكر للمشير محمد حسين طنطاوى، رئيس المجلس العسكرى، والدكتور كمال الجنزورى رئيس مجلس الوزراء، واللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، «للتعبير عن امتنان الأهالى لهم بعد دخولهم إلى أراضيهم»، مؤكدين أنهم لم يغتصبوا أرض الحكومة، «ولكن الحق عاد لأصحابه»، حسب أبوشكارة.