المشرحة هى بطل عام 2011، بعد أن تصدرت المشاهد الرئيسية والمهمة خلال هذا العام، فإذا اعتبرنا أن خالد سعيد هو الشهيد الأول لثورة 25 يناير، وان تقرير وفاته الصادر عن كبير الأطباء الشرعيين وقتها، أحد الأسباب التى فجرت الثورة، جاز أن نقول إن الثورة بدأت من المشرحة أيضا. وكأن العام قرر أن ينتهى هناك كما بدأ، فاختتم مشاهده الأخيرة بأحداث مجلس الوزراء، وبخمسة عشر شهيدا، دخلوا المشرحة، ليحصل عام 2011 مع تلك النهاية بجدارة على لقب عام الشهداء.
أيام الثورة
«افتح الباب يا رجب، فى عربية جيش جايبة جثث برة»، بتعب وإنهاك من لم ينم لمدة طويلة، أخبر عم سيد زميله رجب بأن هناك عملا طويلا هذا اليوم.
أسبوع بأكمله مر على بدء الثورة، كان التاريخ فى النتيجة الصغيرة التى علقها رجب فى غرفة المبيت يشير إلى الثالث من شهر فبراير، وهو ما يعنى أنه لم يعد إلى بيته منذ 5 أيام تقريبا.
«هو احنا هنخلص امتى ونرجع بيوتنا، ولا مش هنرجع احنا كمان»، قالها عم سيد بعد يوم عمل شاق، «ربنا يعدى الأيام دى على خير»، الثورة لم تبدأ عند رجب أو غيره من العاملين بالمشرحة إلا يوم 28 يناير، فى جمعة الغضب، اليوم الذى بدأت الجثث تتوافد فيه على المشرحة ولم تتوقف، وهو أيضا اليوم السابق لفرض حظر التجول من الساعة الثالثة عصرا، والذى لم يعد معه رجب أو زملاؤه فى العمل قادرين على العودة إلى منازلهم بسهولة.
«فى اليوم ده جالنا 66 حالة، محولين من النيابة العسكرية، معظمهم كانوا سجناء، كانوا حاطينهم فى عربية جيش كبيرة»، يتذكر رجب ذلك اليوم، كما يتذكر يوم هجم الأهالى على المشرحة وحطموا غرفة المبيت وزجاج الباب الخارجى.
خلال هذا العام الذى استقبلت فيه المشرحة أكبر عدد من الجثث، كما يؤكد مجدى اسحق المدير العام الإدارى لدار التشريح، «حتى شهر نوفمبر الماضى دخل الدار 1127 حالة من القاهرة، و711 حالة من الجيزة»، حدثت اعتداءات كثيرة ومتكررة على العاملين بالمشرحة.
وبمقارنة سريعة مع عدد الحالات التى دخلت المشرحة فى 2010، ظهر أن الزيادة اقتربت من الضعف تقريبا حيث بلغ عدد الجثث التى دخلت من الجيزة خلال العام الماضى 416 حالة، أما من القاهرة فكانت 689 حالة.
«السنة دى اتعرضنا لاهانات كثيرة، وفى ناس حدفت علينا طوب، لأنهم ما كانوش فاهمين ان احنا عايزين نجيب لهم حقهم»، يحكى رجب مرة ثانية كيف مرت عليهم تلك السنة.
الانفلات الأمنى
المشرحة تستقبل عادة الحالات الجنائية العادية، سواء مشاجرات أو سرقة بالاكراه أو جرائم القتل أو حوادث السيارات، أما خلال عام 2011، أغلب الحالات التى دخلتها كانت نتيجة الانفلات الامنى، الذى نتج عنه تزايد عدد الجثث الواردة للمشرحة وتنوع اصابتها وزيادة قسوتها، على حد تعبير المدير الإدارى.
«فى جثث كثيرة تم دفنها من بره بره، ولم تدخل المشرحة، لأن وقت الثورة ماكانش فى اقسام شرطة، أو وسائل اتصال، أو مواصلات، وكانت الجثث مرمية فى الشارع، والأهل كانوا بيضطروا أنهم ياخدوا الجثة ويتوجهوا بيها لأقرب مركز صحة، يطلعوا تصريح ويدفنوها»، يحكى اسحق، ويضرب مثلا بالطبيب الذى انتقل إلى مستشفى بمدينة السلام، بعد ان وصلت أخبار عن وجود ما يقرب من 40 جثة هناك، فاعتدى عليه الأهل واضطر للعودة دون ان يشرح أى حالة.
«هذا ما حدث فى مستشفيات كثيرة فى مصر، مثل سيد جلال وباب الشعرية، لكن أثناء الثورة وصل المشرحة 160 حالة فقط».
الجثث التى دخلت المشرحة خلال هذا العام، كانت اصاباتها كثيرة ومتنوعة، كما يقول الدكتور محمد رمضان طبيب التشريح، «أغلبها بطلقات نارية، وهناك حالات كان تشخيصها اشتباه فى الوفاة بسبب غاز مسيل للدموع، فى بعض الزملاء طلعوا طلقات 9 ملى، ومقذوفات مستقرة، وخرطوش».
وبعد أن يجزم رمضان أن المشرحة لم تكن تستقبل حالات الطلق النارى قبل هذا العام الا نادرا، يعود ليؤكد أن الأطباء كانوا يستقبلون ما بين 5 و10 حالات يوميا من هذا النوع بعد الانفلات الأمنى، «فى الاحداث الأخيرة وصل المشرحة 8 شهداء وكان معاهم 5 جثث مقتولين فى أحداث عادية».
داخل المشرحة لا فرق بين بلطجى، أو ثورى، والطبيب والعامل على حد سواء، لا يعنيهم كيف مات صاحب الجثة وفى أى سياق، هل كان يناضل فى ميدان التحرير ضد الفساد، أم كان سارقا أو مسروقا، «نحن نتعامل مع الجثة بطريقة واحدة، ليس لنا علاقة هو بلطجى ولا شهيد أو فى أى أحداث قتل»، يقول الطبيب.
خلال هذا العام أيضا أثبتت المشرحة بشكل عملى أنها غير مهيأة لمواجهة الكوارث، فعدد العمال الفنيين فيها لا يتعدى 5 أفراد، وفق المدير الادارى لها، كما أن سعة الثلاجات لا تحتمل أكثر من 120 جثة، وتلك الأرقام توضح العبء الكبير الذى تحمله عمال المشرحة وأطباؤها خلال أحداث هذا العام.
«الحالات التى كانت بتيجى كثيرة جدا، والمفروض ان الجثة تمشى فى نفس اليوم بعد صدور قرار النيابة، لكن فى ايام الثورة كان فى بعض الجثث التى لم يتعرف عليها أحد، كانت بتبقى فى الثلاجات وكانت مكدسة على بعضها»، يقول مجدى اسحق.
وفى الوقت الذى يحصل فيه العامل على حافز قيمته جنيه وربع الجنيه على كل جثة، وبدل مبيت 130 قرشا، «ماينفعش حتى يجيب بيهم سندوتشين فول»، كانت جثث القتلى والشهداء خلال الثورة وبعدها تتوافد على المشرحة بلا توقف، «فى جثث قعدت 25 يوم، وفى جثث قعدت شهر أو شهرين لحين التعرف عليها»، والكلام للمدير الإدارى.
فنى تشريح
«انا باستقبل الجثث وادخلها المشرحة للدكتور، وبعدين اطلعها تتغسل، واسلمها لأهلها»، هكذا كان يجيب رجب عن سؤال ابنته الصغيرة الذى سألته للمرة الأولى، عندما عاد بعد غياب عدة أيام، منعه فيها حظر التجول وتوافد أعداد كبيرة من الجثث من العودة للمنزل.
«هو انت بتشتغل ايه يا بابا؟»، ببراءة استفسرت ذات السنوات الست، عن سبب غياب والدها، وعن طبيعة عمله، وربما كانت تسأله عما شاهده من أحداث فى الشارع.
لم تفهم الاجابة ولم يحاول رجب، أن يسترسل معها فى الحديث، لأنه لا أحد يعرف طبيعة عمله الحقيقية حتى زوجته وعائلته، «كل اللى يعرفوه انى باستلم الجثث وارجع اسلمها تانى».
لكن الحقيقة أن رجب يشارك فى التشريح، بعد ان يستلم الجثة من سيارة الاسعاف، عبر الباب الأسود الضخم للمشرحة، يضعها على التروللى، ويوقع باستلامها، وينتظر أمر النيابة بتشريحها.
التعامل مع جثث القتلى، المشوهين منهم، وأصحاب الأجساد السليمة الا من ثقب صنعته رصاصة طائشة أو مقصودة، ليس أمرا سهلا، لكنه عند العاملين بالمشرحة أصبح اعتياديا.
بالنسبة لرجب، «السنة دى كانت صعبة جدا، مصر اتبهدلت فيها اوى، ولادها اتقتلوا بايدين ولادها، والباقى ماتوا فى خناقة أو وهما بيدافعوا عن شرفهم أو مالهم»، الحالات التى دخلت المشرحة خلال العام كان لها تأثيرها المختلف، كما يقول رجب، «من كثر الجثث الواحد مابقاش قادر يتكلم، كل اللى كنا بنقوله، ان مصر ما تستحقش كده، ولا المصريين يستاهلوا اللى بيحصل ده».
يقطع كلامه صوت عم سيد ينادى «استلم يا رجب».
عبر الممر الطويل الذى تفوح من جوانبه رائحة الدم المتخثر، يدفع رجب الجثة، يدخل بها غرفة التشريح.
الغرفة مربعة المساحة تقريبا، لا يوجد بها الا طاولتان من الاستنلس القوى، ورف رخامى عليه الأدوات.
يرفع الجثة على الطاولة، ينزع عنها الملابس، وينظفها، تمهيدا لمعاينة الطبيب.
«هناك بعض الأمور التى تحتاج لقوة بدنية يقوم بها العامل، لمساعدة الطبيب، مثل نشر الجمجمة»، يشرح محمد رمضان طبيب التشريح، فى صباح هذا اليوم، وصلت الحالة العاشرة.
أحداث مجلس الوزراء لم تنته بعد، الحالة الأخيرة وصلت فجر الثلاثاء 20 ديسمبر، استلمها رجب كالعادة، وبدأ فى تجهيزها.
الجثة كانت لشاب لم يبلغ العشرين من عمره بعد، ملابسه البسيطة كانت تشبه تلك الملابس التى أتى بها رجب للمرة الأولى إلى المشرحة.
تذكر معها أنه قبل 10 سنوات، قرأ اعلانا فى جريدة الأهرام يقول «وزارة العدل، مصلحة الطب الشرعى، تعلن عن فتح باب التقديم لوظيفة عامل فنى تشريح، للعمل بالمشرحة».
«وقتها كنت باشتغل فى محل حلويات، وكنت باتنقل من مكان لمكان، ومافيش شغل ثابت، ولما شفت المسابقة قدمت علطول»، كان رجب فى أوائل العشرينيات، بشرته السمراء وجسمه النحيف، كانا يشبهان ذلك الشاب، لكن وجهه كان مختلفا.
«الشغل هنا مختلف، بيخلى البنى آدم يتغير، والسنة اللى قربت تخلص دى كانت صعبة علينا كلنا»، هكذا يفسر علامات الحزن والكآبة التى تعلو وجهه، بشكل أصبح اعتيادى، وبات من الصعب معه أن تضبط رجب اليوم ضاحكا، أو حتى مبتسما.
أقنع رجب نفسه بالعمل «كل ميسر لما خلق له، حسيت ان دى شغلة كويسة ومناسبة، وقلت لنفسى بدل ما اتأفف منها واقعد اقول ليه، انا ما كنش قدرى اشتغل كده، اقنعت نفسى بأنى بأقدم خدمات لناس كتير عمرى ما هاشوفهم تانى، وباساعدهم انهم ياخدوا حالتهم ويكفنوها ويواروها التراب لمثواها الأخير».
يغلق رجب بابا حديديا يفصل بين المشرحة والسلالم المؤدية إلى مبنى مصلحة الطب الشرعى، يغلقه فى وجه العام الماضى، فلا يظهر فى الصورة، سوى لافتة كبيرة مكتوب عليها «ممنوع الدخول لغير العاملين»، وعبارة مكتوبة بخط صغير تقول «كل من عليها فان».