«قناة الجزيييرة.... حلوة فلوسها دى، بالريال مش كده». كان التلميح واضحا فى كلام الضابط الكبير الذى وضعونى أمامه فى مطار القاهرة، كنت قد فقدت جواز سفرى فى الدوحة واستكملت كل الأوراق اللازمة والتحقيقات الروتينية، وعندما هممت بالمغادرة أوقفنى الضابط قائلا اننى قيد الاحتجاز لأننى مطلوبة على ذمة ثلاث قضايا شيكات بدون رصيد وتبديد وإهدار مال عام، ولما كنت لا أتعامل بشيكات برصيد أو من غير رصيد فقد قلت له أكيد تشابه اسماء، لكنه عاد ليقول لى إن الاسم متطابق رباعيا وكذلك المهنة ومحل الإقامة! كان ذلك بعد وقت قليل من تقديمى حلقة عن الشرطة فى العالم العربى على خلفية حادث خالد سعيد وتفاعلاته وهو الأمر الذى أخبرنى صديق صحفى كبير ونافذ أنه أثار استياء قيادات لم يسمها، رأت أن ما قدمته يعد تحريضا، وبعد وساطات وتدخلات من أصدقاء واحتجاز استمر أربع ساعات ومعى طفلتاى الصغيرتان جاء الاعتذار بأنه كان مجرد تشابه فى الأسماء.
أسابيع قليلة بعدها كنت عائدة من غزة بعد مجموعة حلقات قدمتها من هناك لبرنامجى الصباحى، وبعد انتظار ممض مع عشرات الفلسطينيين فى منفذ رفح استدعانى الضابط فى مكتبه وبعد أسئلة عن أسباب الزيارة ودوافعها توقف عن الكتابة ونظر لى بمزيج من اللوم والتعنيف: لماذا قناة الجزيرة ؟ وما هى مشكلة حضرتك معها؟ سألته، فاندفع بطريقة المحفوظات: قناة عميلة ومشبوهة وبتكره مصر، والحجة أنها تقدم الأشياء السلبية، سألته لو أنه يجلس فى مكتبه وأمامه كوم من القاذورات وقمت أنا بتصويرها فمن منا سيكون المخطئ وعلى من يقع اللوم ؟
لم تمض شهور قليلة... كنا فى غرفة الأخبار نقف على أطراف أصابعنا، الجميع سواء فى ذلك، من هو فى وقت عمله ومن جاء متطوعا ليساعد فى أى شىء، نترقب ونتتبع كل مصدر ونحاول أن نوجد شبكات تواصل من خلال مصادرنا المختلفة بعد انقطاع وسائل الاتصال عن مصر ومن يسقط من الاعياء يذهب إلى بيته ثم يعود بعد ساعات قليلة، قلوبنا معلقة بكل همسة فى مصر، الجو عصيب والمشاعر متوترة ولا أحد يقدر على النوم.
يومها سمعت أن الأديب الكبير الذى وقعت فى غرام كتاباته منذ قرأت له أول رواية وأنا طالبة فى الجامعة وافتتنت بكتاباته البديعة وشخصيته النبيلة ولاأزال إفتتانا يشبه افتتان المراهقات بنجوم السينما قد أقدم على موقف يليق بكاتب حر أمضى نصف عمره فى المنافى وعمل فى منظمات دولية لم يمنعها كونها أجنبية من أن تشير للانتهاك أينما وقع، اتصل به الزملاء فرفض الحديث للقناة.
كان التحريض ضد القناة التى أعمل بها على أشده وخرج بعض الزملاء فى برامجهم يطالبوننا كمصريين بالاستقالة ولم يسلم الأمر من التخوين والاتهامات بالعمالة بل والتحريض على حياتنا والحمد لله أن الأمر لم يصل إلى حرق بيوتنا وإجبار عائلاتنا على التبرؤ منا كما حدث مع زملاء فى ثورات أخرى.
ولما كان رأيه يعنى لى الكثير فقد اتصلت به وسألته ان كان قد تأثر بالدعاية والتحريض ضدنا وإن كان يصدق أننى وزملائى نعمل ضد بلادنا فأجاب بحنوه المعتاد إنه يشاهدنا ولا يصدق ذلك لكنها مسألة مبدأ فهو يريد أن يتحدث فى قنوات مصرية.
تقبلت الأمر حتى لو لم أوافق عليه، فأنا مثله كنت أتمنى أن يكون فى بلادى إعلام حر يستند إلى معايير مهنية ويستطيع كاتبنا الكبير أن ينتقد فيه النظام لو اختلف معه، فربما ساعتها لم أكن مضطرة لأن أتغرب فى بلاد الناس أو أجد من يعايرنى لأننى أتلقى راتبى بالريال، ومن يدرى ربما لم نكن لنحتاج إلى ثورة.
على كل الأحوال لست معنية هنا بالمعركة القائمة بين وزارة الاعلام وبين قناة الجزيرة فلها ساحاتها ولا معنية بالخوض فى جدل مع كاتب صحفى يتساءل بطريقة مسرحية «ولماذا مصر بالذات؟» وكأنه قد أقام الحجة أو جاب التايهة،
لكننى معنية أكثر بلحظة استثنائية عشتها وأتمنى أن أكتبها فى يوم ما، كنت قد سافرت منذ سنوات وأنا التى لم أحلم أبدا أن أترك بلادى، لكننى مثل مصريين كثيرين كتبت عليهم الغربة التى يراها المصريون دوما مرارا كاسرا وأن يتحولوا إلى مجرد رقم ووصف: المصريون فى الخارج، وواجهت ما يواجهونه فى الغربة والأحاديث حول شيفونية المصريين وما يقابلها من شيفونية مضادة وهو حديث يطول.
ثم جاءت الثورة المصرية.. كانت ثورة تونس حدثا إستثنائيا ومدهشا ومفاجئا، وكانت الأحداث فى اليمن تراوح منذ عدة شهور بين مد وجزر، لكن ثورة مصر كانت شيئا مختلفا، فعلى قدر المشاعر التى فجرتها هذه الثورات فإننى استطيع أن أقول اننى شهدت لحظة عربية مجيدة فجرتها الثورة المصرية.
شاهدت الجميع يتحول إلى مصرى، العراقى والجزائرى والخليجى والفلسطينى، اختفت كل المماحكات والمعارك الصغيرة وكان شعور الجميع بهذه الثورة مختلفا، كانت الإجابة دائما وباعتزاز بالغ: «دى مصر».
الكثيرون أقدر منى على الاستفاضة فى الحديث حول دور مصر وتأثير مصر وقدر مصر، لكن ما كنت شاهدة على جانب منه هو روح مصر التى انبعثت فى الجميع.
كنا نشعر أننا وزملاؤنا فى المحطات الدولية الأخرى مثل ال«بى بى سى» والعربية وفرانس 24 أننا نلعب دورا مهما فى وقت كان الاعلام المصرى فيه مكبلا والضغوط الواقعة عليه مفهومة من نظام يلفظ أنفاسه، وكنا نعلم فى وقت لم يكن يستطيع أحد أن يتنبأ بمصير الثورة أن ثمنا قد يدفع وأنه سيبقى أقل من أثمان دفعها آخرون، وأننا تحولنا جميعا من موقع المنافسة إلى موقع رفقة السلاح لدرجة أننا كنا نتبادل أحيانا المعلومات ويمرر بعضنا لبعض المصادر فكل ما كان مهما هو أن يصل صوت مصر، وعلى كل فإن الدور الذى قامت به وسائل الاعلام وتحديدا الدولية جدير بأن يبحث بشكل أعمق من ذلك.
لكن ما هو جدير بالملاحظة والتوقف عنده هو أن نظاما يفترض أنه جديد يعيد انتاج نفس الحجج القديمة ويستخدم نفس الاصطلاحات غير المحددة، ويلجأ أول ما يلجأ للتضييق على وسائل الاعلام التى لا يستطيع السيطرة عليها، والمفارقة أنه يجد من بين أبناء المهنة من يبرر ذلك بنفس الحجج القديمة دون حتى أن يتعب نفسه فى ابداع حجج تليق بثورة.