مثل الزمن، ينسال الفيلم ناعما بلا توقف. كل مشهد من مشاهده الطويلة، يوحى أن ثمة لحظات فى الحياة، من الممكن الإمساك بها، وتثبيتها، لكن إن عاجلا أو آجلا، تنطوى صفحتها لتظهر صفحة جديدة. فى افتتاحية الفيلم، مع ما نراه من حركة على طريق زراعى، خلال نافذة قطار، يتهادى صوت الراوى عمر الشريف الدافئ، المتهدج بفعل الشيخوخة، ليعرب بصدق، عن ذاكرته التى علاها ضباب، وحياته التى لا يكاد يتذكر منها سوى ثلاثة أيام. منها، أحد أيام العام 1948، حيث سفره إلى بورسعيد، ليتسلم عمله فى مكتب التليغراف. وها هو، بأداء خالد النبوى الذى يجسد عمر الشريف شابا، يجد نفسه، بدافع من رعونة السن، أو بسبب أقدار غير مفهومة، طرفا فعالا فى مغامرة غريبة: يتسلل إلى السفينة الفاخرة، المتلألئة، ليلتقى بالشابة الفاتنة، نورا سيرين عبدالنور زاعما أنه «فؤاد»، الذى جاءت للزواج منه، والذى لم تره منذ غادرت بورسعيد وهى طفلة.. السفينة هنا، تعطى معنى أكبر من كونها مجرد وسيلة سفر، وربما تعنى الحياة، بمباهجها ومفارقاتها وغربائها، ويتحول بطلنا «حسن» خالد النبوى من متسلل إلى مقتحم، حين ينبهر بجمال نورا، فلا يملك إلا مواقعتها عنوة، وتستسلم له، وقد تكون تجاوبت. ويتعمد كاتب السيناريو، المخرج، أحمد ماهر، أن يغلق المشهد كله، بأغنية «حسن.. يا خولى الجنينة»، بما تفيض بها كلماتها من عواطف العشق واللوعة والراحة والألم.. ويأتى «فؤاد» عمرو واكد وعقب مشادة بينه وحسن، يتزوج من «نورا»، مما يغضب حسن، الذى يحاول إحراق السفينة. «المسافر»، فيلم متمرد، يتحرر من تقاليد السينما المصرية، يبتعد عن الواقعية بمعالمها المعهودة، ولا يعتمد على قصة ذات بداية ووسط ونهاية لذلك فإنه يعد فيلم «حالة»، لا يفصح عن أفكاره على نحو مباشر، بجملة أو حكاية أو علاقة، ولكن يعبر عن رؤيته بعشرات التفاصيل التى تجرى فى شرايينه، من دون تعسف، فعلى سبيل المثال، لا يمكن إغفال الإيحاء بأحلام الرحيل والعودة، الرغبة فى الانطلاق والتواصل، فأسراب الطيور المحلقة فى الأفق تطالعنا فى البداية والنهاية، ومنذ المشاهد الأولى، تتوالى معظم سوائل السفر: عساكر يمتطون صهوات الجياد، الدراجات، عربات الكارو، السفن، السيارات، الأتوبيس النهرى.
أما اليوم الثانى فيدور فى عقب حرب 1973، فأغنيات تلك الفترة تنطلق من الراديوهات. ابنة «فؤاد»، «نادية»، بأداء سيرين عبدالنور أيضا، تعود من الخارج، تعامل «حسن» كما لو أنه والدها، حسب تأكيدات والدتها. يرتبك «حسن» بأداء خالد النبوى الذى أصبح مترددا، بحكم السن غالبا، ولكن بعد لحظات من الشك، يقتنع أنها ابنته. تخطره أن شقيقها التوءم مات غريقا، وعليهما التعرف على جثته ودفنها وتنفيذ وصيته بزواج «نادية» من صديقه «جابر»، المعوق ذهنيا، ويؤدى دوره محمد شومان على نحو شديد الإقناع، فهو لا يجنح للمغالاة، أو الكاريكاتير، ولكن يجسد ما يمكن أن ينطوى عليه «المعوق ذهنيا» من الإخلاص والبساطة والتواضع ونقاء الروح.. هنا، يبدو الفيلم كما لو أنه يتأمل مفارقات الحياة، فاللحاد العجوز، لا يتذكر، بيقين، مقبرة «نورا» كى يدفن ابنها بجوارها، ففى النهاية، كلها مقابر، والكل موتى. وصوان العزاء، يتحول إلى صوان فرح، وبدلامن نهنهة الحزن، ثمة بهجة أغنيات الزفاف. والواضح أن «نادية»، الجميلة مثل والدتها، وجدت فى عريسها الطيب، مرفأ أمان.
أسلوب أحمد ماهر يتسم بالمشهدية الطويلة، العامرة بالحركة، مع الاقتصاد فى حركة الكاميرا، والاستغناء عن اللقطات السريعة، والقريبة، والكبيرة، وهو فى هذا تمشى مع روح الفيلم القائمة على التأمل الهادئ للأمور، أيا كانت درجة سخونتها، مع الأخذ فى الاعتبار، تلك النزعة الجمالية التى تتوافر فى الفيلم، وهى ليست جمالية شكلية مصطنعة، ولكنها نابعة من قلب الأماكن، بالديكورات المدعومة بالصدق التاريخى التى حققها أنسى أبوسيف، والملابس المتوافقة مع الزمن، والشخصيات، التى صممتها دينا نديم، فضلا عن تدفق الحيوية وتعدد مستويات النظر، داخل المشهد الواحد، سواء طوليا أو عرضيا، فمثلا، داخل السفينة، يضع المصور الراسخ، ماركو أونوراتو، آلة التصوير، بحيث ترصد راقصات الطابق العلوى، والحوار الذى يدور بين «حسن» و«نورا»، فى النصف الأيمن من الطابق الأسفل، بينما على اليسار، نرى الطهاة، فى المطبخ، يعدون الطعام.. لكن هذا الأسلوب أدى إلى الاستغناء عن اللقطات القريبة، الكبيرة، وبالتالى عدم إبراز دقائق الانفعالات على وجوه الأبطال، فها هو خالد النبوى، يقف بلا انفعال واضح، أمام سيرين عبدالنور، التى خلبت لبه، فى اليوم الأول، قبل أن يهم بها.. ثم، فى «اليوم الثانى»، يجلس «حسن»، على السرير، بجانب ابنته «نادية»، وهو فى قبضة الحيرة، قبل اقتناعه بأبوته، من دون أن يظهر أى انفعال على وجهيهما، ذلك أنهما يعطيان ظهرهما.. للكاميرا.
فى «اليوم الثالث» عام 2011، يزداد الفيلم ألقا، بفضل عمر الشريف، أو «حسن»، بعد أن أصبح شيخا، يلتقى حفيده «على» شريف رمزى ابن «نادية».. الجد، يتمسك بحفيده، وكأنه يتمسك بالمستقبل، يريد أن يكون له امتدادات. وبرغم ضعفه، لم يفقد روح المغامرة، ولأنه يدرك عدم قدرته على الفعل والمواجهة، يدفع حفيده إلى الشجار مع بلطجى، ينتهى بتحطيم أنف «على»، عمر الشريف، فى نظرته، ومشيته، وطريقة كلامه، يعطى إحساسا بأنه «المسافر»، فى نهاية الرحلة، وفى حجرته، أمام التليفزيون، تحاول حمامات بيضاء أن تنطلق داخل الجدران. ألا توحى هذه المحاولة برغبة «حسن» العجوز، فى التحرر والفعل؟.. وألا يعنى إنهاء الفيلم بالأم التى تلقم ثديها لرضيع، داخل أتوبيس نهرى، بأن رحلة الحياة مستمرة، برغم أفول جيل وراء جيل، وقدوم مواليد جدد؟.. «المسافر»، فيلم جرىء فنيا، متفرد، لا يشبه، فى السينما المصرية، إلا نفسه.