على طريق «أوسايا» بالعاصمة الكينية نيروبى.. وفى مقر السفارة المصرية بكينيا يجلس السفير المصرى قدرى عبدالمطلب، يخطط لإيجاد آليات جديدة لإعادة وتقوية العلاقات المصرية الكينية عقب ثورة يناير التى كشفت عن توجهها الأفريقى، يبحث فى رؤية استراتيجية جديدة تربط مصر بسياقها الأفريقى.. يحلم بإعادة التفكير فى تنفيذ طريق القاهرة كيب تاون الذى يربط شمال القارة السمراء من مصر بجنوبها فى كيب تاون بجنوب أفريقيا، وهو المشروع الذى سيغير وجه أفريقيا إذا اجتمع عليه القادة الأفارقة. عبدالمطلب الذى يمثل مصر فى عاصمة أكبر وأهم دول شرق أفريقيا، تحدث ل«الشروق» فى نيروبى بلغة يشوبها الأمل والتفاؤل الحذر بمستقبل أفضل على مستوى العلاقات المصرية بدول أفريقيا، معولا على الجانب الاقتصادى الذى قد يكون البادرة الأولى للتواجد المصرى فى الدول الأفريقية، مشددا على الأهمية الإقليمية لكينيا معتبرها قبلة مصر للتغلغل فى أفريقيا، وبداية الانفتاح المصرى على دول شرق أفريقيا، مدافعا بقوة عن الوجود الرسمى المصرى من خلال التمثيل الدبلوماسى فى الدول الأفريقية «حتى نكسر الحاجز النفسى على الأقل». بدأ عبدالمطلب حديثه بالأهمية الاستراتيجية لكينيا قائلا إنها قلب منطقة شرق أفريقيا وبوابة الدخول إلى معظم دول حوض النيل الحبيسة مثل تنزانيا ورواندا وبوروندى وأوغندا لتكون كينيا المنفذ البحرى لهم. يؤكد عبدالمطلب أن أهمية أفريقيا لمصر لا تقتصر فقط على الجانب السياسى، لكن الجانب الاقتصادى يحظى بقدر كبير من الأهمية تستوجب عمق العلاقات الاقتصادية بين مصر وأفريقيا، لافتا إلى أن كينيا سوق اقتصادية مفتوحة أمام رجال الأعمال والصناعة المصرية. لا تزال القدرات المصرية فى كينيا، كما يصفها عبدالمطلب، محدودة، والعلاقات الاقتصادية «تتم فى سياق تجارة الشنطة» مستبعدا أن تكون هذه الصفقات مشبوهة، وإن كان يعتبرها لا تليق بحجم ونوع الصناعة المصرية، حيث يعمل رجال الأعمال المصريون فى تصدير البرتقال والعنب والمشروبات والعصائر إلى السوق الكينية، رغم وجود عدد لا بأس به من المنافسين مثل جنوب أفريقيا، ورغم تمتع مصر بميزة تفضيلية عن جنوب أفريقيا هى عضويتها فى الكوميسا والتى تمثل فيها كينيا الشريك الاقتصادى والتجارى الأول لمصر حسب عبدالمطلب. وصل حجم التبادل التجارى بين القاهرة ونيروبى طبقا لإحصاءات 2010 إلى 370 مليون دولار لصالح كينيا، لشراء مصر ما يقرب من ربع الإنتاج الكينى من الشاى، حيث تشترى مصر 97 مليون طن من الشاى الكينى من أصل 400 مليون طن تنتجهما كينيا سنويا. يقول عبدالمطلب أن بورصة الشاى الموجودة فى مومبسا تتأثر مباشرة بمبيعات الشاى لمصر، مشيرا إلى أن أحداث الثورة وتوقف التحويلات البنكية هبطت أسعار الشاى فى بورصة مومبسا بشكل كبير، نتيجة أن ربع المعروض فقد مشتريه، وهو ما يمثل قدرا من الحضور المصرى القوى فى الاقتصاد الكينى حيث يمثل الشاى السلعة الأكثر مساهمة فى الدخل القومى لكينيا يليها سياحة السفارى. وكشف عبدالمطلب عن دخول رجال الأعمال المصريين لبيع بضائع صينية بكينيا والترويج لصناعات ومنتجات صينية، مطالبا بضرورة إقامة معارض مصرية لتظهر قوة الصناعة والمنتجات الاستهلاكية والتجارية المصرية، وليست كالمعارض التى كانت تقام لبيع الشيشة والحلاوة الطحينة، فمصر إنتاجها أكبر من ذلك. «لابد أن تقام معارض تظهر قوة الصناعة والتجارة المصرية، فلا أتصور أن تكون تتمثل المنتجات المصرية فى الجبن والعصائر والبرتقال والشيشة فقط»، هكذا استنكر عبدالمطلب نوعية المنتجات المصرية المصدرة إلى كينيا، مطالبا رجال الأعمال والصناعة المصريين بعمل دراسات للسوق المحلية واحتياجاته الفعلية. وأوضح عبدالمطلب أن مصر لديها مكتب تمثيل تجارى بكينيا ومنوط به توفير بيانات عن السوق المحلية لرجال الأعمال، فهو يقوم بدور معقول ولكنه ليست كافيا، قائلا لا بد أن يعلم المصريون مدى أهمية السوق الكينية الذى يحتوى على 40 مليون نسمة إضافة إلى القوة الشرائية للدول الحبيسة المجاورة لكينيا. يقول عبدالمطلب إن القوة الشرائية للسوق الكينية ليست مرتفعة بسبب الدخل المنخفض، ولكنه يؤكد بأن الحكومة الكينية لديها خطة حتى عام 2030 لتصبح من دول الدخل المتوسط، وإذا لم تتواجد مصر فى دول حوض النيل حاليا فهناك العديد من الدول التى بدأت تدخل دول أفريقيا وبقوة مشيرا إلى الشركات الصينية التى حصلت على معظم مناقصات مشروعات البنية التحتية فى كينيا. يذكر أن شركة القلعة القابضة المصرية تعمل فى تطوير خط السكة الحديد بين كينيا وأوغندا والذى سيمتد من ميناء مومباسا إلى كمبالا بتكلفة 250 مليون دولار. سياسيا يقول عبدالمطلب إن كينيا استطاعت أن تحقق انفتاحة سياسية كبيرة والتى ستسهم بلا شك فى إعطاء صورة إيجابية للنشاط الاقتصادى. ورغم ارتفاع مطالب الإصلاح السياسى والدستورى فى مصر قبل ثورة يناير كانت كينيا تعيش فترة انتعاشة دستورية حين أقر الشعب الكينى الدستور الجديد الذى يضمن المزيد من الحريات السياسية للمواطن الكينى، وكانت مصر من ضمن المهنئين والمباركين للتجربة الكينية إلا أن النظام السابق اختلطت أمامه كل سبل الرؤية وحدث له نوع من التجمد الفكرى والسياسى، ولم يتعلم من الدول المحيطة بها، وكنا نتعامل بأسلوب الإدارة المترهلة إلا أن ثورة يناير أعادتنا على الطريق. ويرى عبدالمطلب أنه رغم الحضور الطفيف لمصر فى قارتها السمراء إلا أنه فقدت الكثير من ضعف العلاقات مع الدول الأفريقية، مؤكدا أن العامل الإنسانى فى العلاقة مع الزعماء الأفارقة يكون له عائد قوى فى تقوية العلاقات الدولية مع هذه الدول، وهو الجانب الذى غاب لسنوات طويلة، قائلا «أتصور أن يقوم أول رئيس لمصر بعد الثورة بعد أن يقضى ال100 يوم الأولى له أن يقوم بزيارة عدد من الدول الأفريقية». عمق العلاقات الاجتماعية يقول عبدالمطلب إن العلاقات المصرية الأفريقية لن تقف عند الحدود الرسمية لأن الأفارقة يتعاملون مع مصر كشعب عريق يجمعها بهم تاريخ ثقافى وعلاقات اجتماعية، تؤكد تزاوج العلاقة الثقافية بين مصر وأفريقيا، فهناك العديد من الكينيين الذين ينتمون إلى أصل نوبى، فضلا عن وجود ما يقرب من 30% من الكينيين مسلمين، كما يوجد عدد من الوزراء فى الحكومة الكينية من أصول عربية مسلمة. «التنسيق السياسى» يرى عبدالمطلب أن الموقف الكينى فى أزمة حوض النيل، وما يتعلق بالتعاون من خلال مبادرة مياه النيل هو موقف أقل تصلبا من دول منابع النيل الأخرى، مؤكدا وجود نبرة من العقلانية المتفهمة للموقف المصرى فى حديث وزيرة الرى الكينية أثناء المؤتمر الأخير المنعقد فى نيروبى حول مياه النيل. وأكد أن مصر لا تتعامل مع دول حوض النيل بمبدأ الاعتراض المطلق ولكن هناك ثوابت للموقف المصرى فيما يتعلق بمياه النيل، فنحن نتمسك بمبدأ المكسب للجميع ونحاول التفاوض حول مشروعات تزيد من كمية المياه فى النهر من خلال استقطاب الفواقد وإعادة استغلالها بما يحقق المنفعة المشتركة، بما يعنى زيادة حجم كعكة النيل ليزيد نصيب الجميع منها، فنحن نوضح لهم مدى حجم المشكلة المائية فى مصر ودخولنا فى مرحلة الفقر المائى رغم حصولنا على حصة ثابتة من مياه النيل. «مصر غابت عن أفريقيا ولكن العود أحمد» يقول عبدالمطلب إن التمثيل الرسمى للدولة المصرية فى أفريقيا لا يكفى لإعادة وتقوية العلاقات مع هذه الدول، فالسياسة القوية تحتاج إلى اقتصاد قوى يدعمها، وهو ما يتطلب تقوية الوجود المصرى فى أفريقيا من خلال التغلغل الاقتصادى. «مخاوف المستثمرين من التوجه إلى الدول الأفريقية هى مخاوف مشروعة وحقيقية، وغالبا نسمع أن رأس المال جبان، ولكن إذا لم نتواجد الآن سيتواجد غيرنا على الساحة، لكن الآن يجب أن تنتفى كل الأسباب الحقيقية للخوف» حسب عبدالمطلب. ورغم بدء الحديث عن استغلال مياه النيل حفاظا على شعوب دول النيل من موجة الجفاف والنقص الحاد فى مياه الأمطار الذى بدأ يضرب القرن الأفريقى، استبعد عبدالمطلب امكانية استغلال مياه بحيرة فيكتوريا فى كينيا لمواجهة الجفاف الذى يضرب المنطقة الشمالية الشرقية والتى تعتمد فى الأساس على مياه الأمطار لصعوبة نقل المياه. «من المحال تأمين الاحتياجات المائية من خلال نهر النيل فى بلد مثل كينيا.. مثل ما تطلب دول منابع النيل بحقها فى استغلال مواردها من مياه النيل لتحقيق الأمن المائى والغذائى» حسب عبدالمطلب الذى أكد الحاجة الماسة لدول حوض النيل فى الوصول إلى الطاقة للتنمية، لافتا إلى أن كينيا الآن تعانى من مشاكل الكهرباء، ورغم ارتفاع أسعارها دائما ما توجهه الحكومة الكينية نداءات للتخفيض فى معدلات استغلال الطاقة، وهناك آراء فنية تؤكد أن مشروعات الطاقة فى دول الهضبة الاستوائية لن يكون لها تأثير مباشر على مصر. ونفى عبدالمطلب أن يكون قد تلقى أى رسائل سياسية رسمية تطلب عدم محاكمة مبارك، لكنه قال إن الشعوب الأفريقية متأثرة بتجربة نيلسون مانديلا التى كانت تدعو إلى المصالحة التى تتم بالمواجهة والمكاشفة ثم الاعتذار وتخطى هذه المراحل لبناء البلاد بعد ذلك، لكننا فى مصر لا نزال فى مرحلة المكاشفة وإذا تم ذلك على أسس سليمة يمكن أن يكون هناك دعوة للسمو والترفع ولكن لا يعنى ذلك التنازل عن حقوق الثوار الذين قتلوا واسترداد ثروات مصر التى نهبت، مطالبا بالتخلص من بقايا النظام السابق قبل الدعوة إلى عقد دستور جديد أو انتخابات.