فى ليالٍ رمضانية مثل هذه، كان لاجتماعات اللجان العلمية بجهاز التنسيق الحضارى، مذاق آخر، حيث إفطار حميم مع الزملاء، ثم الإسراع بالتحضير للاجتماع، واستقبال الأساتذة أعضاء اللجنة. وكانت الأنشطة الفنية المقامة على مسرح محكى القلعة القريب، وسيلة لا بأس بها لتمضية الوقت. الدكتور يحيى الزينى، هو أحد أعضاء هذه اللجان، تراه آتيا فتبتهج، شأن العلماء المتواضعين، والفلاسفة الذين يضيئون الطريق، وينبّهون العقل. مرت حوالى أربعة أعوام على ترك العمل بالجهاز، لم أره خلالها، ثم جاءت فرحة كبيرة بصدور كتابه «المدينة بين التنسيق والتأصيل»، الإصدار الثانى للجهاز، بعد الكتاب المهم «مقالات فى التنسيق الحضارى»، الذى جُمعت فيه مقالات الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، غير المنشورة فى كتب، عن ثقافة التعامل مع الفراغات العمرانية، والتى اعتبرت رؤية سابقة للزمن، حيث رحل بهاء الدين عن العالم قبل فكرة إنشاء جهاز معنى بهذا الأمر. ومن باب الالتفات لقامات تستحق إلقاء الضوء عليها، نتعرض قليلا للكتاب، ودلالاته. هى فقط محاولة لالتقاط ملامح هذا العمل القيم، والتعرف على روحه، حيث إنه من الغنى والحجم الذى يحتاج إلى عدة مقالات تحليلية للغوص فيه وتقديمه، ولكن ربما علينا أولا أن نُعرف القارئ على يحيى الزينى. المقدمة التى صاغها الكاتب سمير غريب رئيس الجهاز، كانت كفيلة بهذا التعريف، فوصفه بأنه «شاهد على ما حدث للعمران فى مصر على مدى أكثر من سبعين عاما»، يقول: «يمكن لكل إنسان أن يكون ناجحا فى مجال واحد، ولكن هناك بعضا من البشر يمكن أن يكون الواحد منهم ناجحا فى أكثر من مجال»، يكمل: «يحيى الزينى واحد من هؤلاء البعض، القلة أو الاستثناء. إنه موهوب كمهندس مصمم معمارى، وكأستاذ جامعى يجيد شرح دروسه لتلاميذه، ويؤثر فيهم شخصيا. لكنه أيضا مفكر يجيد التأمل والتعبير عما يتأمل فيه ويتوصل إليه من أفكار وآراء بقلم طيع رشيق». وتكفى قراءة تأملية للسطور الأولى فى مدخل الكاتب، حتى يكتشف القارئ المدى الإبداعى والثقافى فى الأمر: «يتجذر انتماء الإنسان للمكان خلال حركة الزمان، عن طريق ما يتشكل لديه من رموز ومعان، وما يتراكم فى وجدانه من عواطف وأحاسيس، وما تسجله ذاكرته من مواقف وأحداث وصور تجعل جميعها الزمان متجمدا». تلفتك هذه السطور إلى المعنى الأدبى والفلسفى والإنسانى فى الفكرة، وأن الكتاب متجاوزا للمسائل النظرية، والرسومات الهندسية، وتعرف العناوين الرئيسية والفرعية طريقها إلى وجدانك مباشرة، فلا تجد مقاومة، وأنت تتصفح الفهرس، أن تقفز إلى صفحة تحمل عنوانا بعينه، لتجد حديثا شيقا عن المسلة المصرية بميدان الكونكورد فى باريس، والتى شبهها الكاتب بصاحبة المقام الرفيع، وكيف يتعامل الفرنسيون معها، وأثر المشهد الرائع على المارة، يقول: «حملنى مترو الأنفاق من الحى اللاتينى إلى محطة الكونكورد، قادنى أحد المخارج صعودا إلى ساحة الميدان لأفاجأ بمشهد قل أن يوجد مثله فى الصرحية والفخامة والاتساع!، بدأت تتضح معالم المسلة الشامخة أمام ناظرى، تحّفها من الجانبين نافورتان جميلتا التكوين، ترسخان بحوضيهما التوازن الأفقى مع قاعدة المسلة وارتفاعها الرأسى الشامخ». ولم يفوّت الكاتب الفرصة للحديث عن «صاحبات المقام والقوام الرفيع، اللاتى قدر لها مغادرة موطنها مصر قهرا أو طوعا من المسئولين، كى تنصب فى نهاية المطاف سفيرات فوق العادة فى أكبر ميادين عواصم العالم». تتأمل هذه المشاهد التى وصفها يحيى الزينى بلغة رائقة، ثم ترجع فصلا أو اثنين للخلف، فتجده ينادى: «نداء من القلب والعقل إلى الجميع.. أنت وهو وهى وأنا، أفرادا أو هيئات ومؤسسات، نحن جميعا ملاك للثروة العقارية التى تشكل عمران المدن المصرية، ومعظم هذه الثروة من المعمار التراثى الجميل تتدهور وتتآكل أمامنا بإيقاع سريع ولا نبالى، وبعضها يتعرض لجراحات تشويهية، ولا نكترث. فنحن فى غيبة الوعى وغيبوبة الأنانية ولا نحس بالملكية العامة ولا ندرك قيمة المشاركة والانتماء». يتساءل إذا كنا جديرون بالإرث الجميل «معمار قاهرة إسماعيل أم لا»، ويحرّضك على التعاطف مع «عمائر على جانب مبهر من الروعة والجمال»، مبان لن تلبث أن تفقد القدرة على مقاومة الإهمال وسوء المعاملة. تنتبه أنت إلى أن المسألة، بالفعل، ليست رفاهية، ولكنها ضرورة أن نستعيد الشعور بالجمال والقبح، ومدى ما يلعبه هذا من دور فى سلوكنا الآدمى، وتربية أبنائنا فى مناخ مختلف، يتواصلون فيه مع المكان، البيت، الشارع، المدرسة، والحدائق، كل ما يملأ فراغنا العمرانى، ويترك الجيل تلو الآخر ما يدل على مدى تقدمه، أو تأخره، فما كان لنا أن نستدل على العصور التى سبقتنا إلا عبر ما تركوه من عمارة، أهرامات ومسلات، مساجد وكنائس ومعابد، مبان معمارية متميزة وأخرى قبيحة، كلها دلالات على العصور التى تركتها، والتى سنتركها للأجيال القادمة.