ينطلق المركب النيلى من مرسى الكشافة البحرية، يحمل 30 طفلا يتمتع أغلبهم بذاكرة حديدية فى حفظ الأغانى على مختلف أنواعها. يبدأ الغناء والرقص على أنغام عمرو دياب، لينتهى بأغنيات شعبية من طراز «وأركب الحنطور». «إحنا بنحب الأغانى المصرية كتير، وحافظينها كلها»، حنين، 13 عاما، طفلة فلسطينية ضمن وفد من أطفال يتامى من غزة فى رحلة ترفيهية إلى مصر. تقول حنين إنها أعجبت بشدة بالأهرامات وأبو الهول، وتحكى عن اهتمام الناس بالحديث معها وزملائها فى الرحلة حين زارت ميدان التحرير. «أعرف عن الميدان أنهم ناس عملوا ثورة عشان يحرروا بلدهم»، وتتمنى حنين أن يحصل شعبها على الحرية أيضا، رغم أنها متخوفة من حدوث مواجهات تؤدى إلى مزيد من الجرحى والقتلى. تبدو حنين مستمتعة بالرحلة التى نظمتها جمعية «عطاء غزة» الأهلية ويمولها أفراد من عائلة «شعث». حنين إحدى أكثر الفتيات مشاركة فى الغناء والرقص. ابتسامتها لا تختفى حتى وهى تحكى عن حياتها فى غزة، وعن المرة التى فزعت فيها من رؤية «الزنانة»، صاروخ الإضاءة الكاشفة، وعن لهوها فى حديقة المدرسة أثناء الفسحة حين علمت بنبأ استشهاد والدها بصاروخ إسرائيلى فى 2006. «تأثرت الطفلة من الحرب بشكل واضح، على مستواها الدراسى وانخراطها فى المجتمع»، كما يصف التقرير النفسى حالة حنين، مثل باقى الأطفال الذين فقدوا آباءهم بسبب أمراض قاتلة أحيانا، أو الاستشهاد فى أغلب الأحيان. «لكن الطفل الذى يعيش الحروب، يكون أكثر قدرة على التأقلم مع الألم»، كما تقول وفاء أبو موسى، الإخصائية فى التأهيل النفسى لضحايا الحروب والكوارث. تؤكد وفاء أن الحياة فى مجتمع يعانى بأكمله من نفس الكارثة، كالمجتمع الفلسطينى، يزيد من التواصل والتضامن بين العائلات. «ينمو الأطفال فى هذا الجو وبهم استقلالية كبيرة ونضج وقدرة على مواجهة المشكلات». وفاء الفلسطينية المقيمة بمصر منذ 5 سنوات، تقول إن وظيفة المعسكر ترفيهية وصحية فى آن واحد، فبعد يومين من الفرجة على معالم القاهرة، يسافر الأطفال إلى نويبع فى معسكر لمدة 5 أيام. «حيقضوا الأيام الخمسة فى الرسم واللعب والموسيقى»، كما تقول وفاء، مضيفة أنها تخطط لأن يقوم الأطفال بتمثيل مسرحية يقومون هم بكتابتها والتعبير من خلالها عن حياتهم. إنه أسلوب «سايكو دراما» فى التأهيل النفسى، لمساعدة الأطفال على التعبير عن مشاعرهم المكبوتة. «اليوم نحاول أن نرسم ذكريات بديلة حلوة للأطفال»، والحديث لإبراهيم الزيناتى، مسئول ملف الإغاثة والأيتام بالجمعية. يقول إبراهيم إن أطفال غزة لا حديث لديهم إلا عن المعاناة وتبادل قصص الاستشهاد عن أقاربهم وجيرانهم. «دلوقتى يقدروا يحكوا فى حاجة مختلفة»، يستطيعون الآن أن يحكوا عن ذكرياتهم فى السيرك والملاهى والمركب النيلى. «لكن حرام أن يستمتع أطفال أوروبا بمصر ومعالمها، ويصعب هذا على أطفال فلسطين»، يقولها الزيناتى بأسى. تسمح السلطات المصرية بدخول 400 شخص فقط عبر معبر رفح يوميا، غالبا ما يكونون من المرضى فقط. يقول إبراهيم إن سلطات حماس قد رفضت دخول الأطفال إلى مصر، «لأن دخول 30 طفلا للفسحة فى مصر، معناه ضياع 30 فرصة لمريض يحتاج العبور». بعد اتصالات بالجانب المصرى، وافق الأمن على عبور الأطفال دون احتسابهم ضمن الكوتة اليومية. «لكن الإجراءات البطيئة، والعنت المتبادل بين الجانبين المصرى والفلسطينى على الحدود قد أحال الرحلة إلى جحيم»، فقد فشلت المحاولة الأولى لعبور الحدود وعاد الأطفال إلى غزة بعد 8 ساعات من الانتظار باكين مكتئبين. أما المحاولة الثانية الأسبوع الماضى، فقد نجحت بعد عناء شديد، واستطاع الأطفال المرور من المعبر قبل 15 دقيقة فقط من إغلاقه. تفاصيل الإعداد للقافلة مليئة بنماذج من الحب غير المشروط للشعب المصرى تجاه فلسطين. شباب الكشافة البحرية تطوعوا للترفيه عن الأطفال والسفر معهم لنويبع دون مقابل، حيث يقضون هناك 5 أيام فى معسكر نظمته شركة سياحة تنازلت عن أجرها. أكياس الحلوى التى يتبادلها الأطفال تبرع بها قس مصرى وزوجته، فى حين تطوعت فاعلة خير بصناديق المياه المعدنية اللازمة للمعسكر. يأمل إبراهيم أن تتحول هذه المشاعر إلى واقع سياسى يفتح معبر رفح بين غزة ومصر، فيسافر أطفال فلسطين لزيارة مصر والاستمتاع بها كيفما شاءوا. «لا أحد يستطيع أن يتخيل مدى فرحة الأطفال بهذه الزيارة، فهم محرومون من أبسط وسائل الترفيه فى غزة»، كما يقول إبراهيم. يستمر الأطفال فى الغناء. أحمد، 12 عاما، الذى رأى والده يستشهد أمامه فى 2009، يتطوع لقيادة زملائه فى الغناء. محمد، 13 عاما، الذى استشهد والده فى 2003 يقول إن الجو فى مصر رائع وأنه مستمتع بشدة بالهواء اللطيف. أما مجد، 14 عاما، فتبدى انبهارها بمشاهد الأفق المتسع من فوق كبارى مدينة القاهرة. تقول إنها تتمنى أن تحظى فلسطين بالحرية مثل مصر، حتى تستطيع يوما أن ترى خان يونس ونابلس وأريحا والقدس وغيرها من المدن التى شاهدتها فى التليفزيون. تعود المركب للمرسى استعدادا لنشاط جديد.