أثار تبنى الكثير من القوى السياسية والشخصيات العامة المدافعة عن الدولة المدنية لوثيقة الأزهر الشريف حفيظة بعض الأصدقاء الكتاب والباحثين الذين لمحوا فى ذلك تناقضا بين الدفاع عن الدولة المدنية وبين الترحيب بوثيقة ذات محتوى سياسى صدرت عن مؤسسة دينية. والحقيقة أن وراء هذه القراءة التى عبر عنها كتاب مثل الأستاذ صلاح عيسى والصديقة منار الشوربجى مقاربة للدولة المدنية باعتبارها دولة الفصل بين الدين والسياسة التى لا يسمح بها للمؤسسات الدينية أو لرجال الدين بتناول قضايا كالدستور وملامح النظام السياسى وشكل النظام الاقتصادى وضمانات حقوق الإنسان. دولة الفصل بين الدين والسياسة التى لا يحظر بها التعبير علنا عن تأييد المؤسسة الدينية لمضامين سياسية بعينها ويمتنع بها السياسى عن تبنى وثائق ذات صبغة دينية. ومع كامل الاحترام لوجهة النظر المتحفظة على تبنى وثيقة الأزهر الشريف، فإن للدولة المدنية فى الواقع المعاش للكثير من المجتمعات تطبيقات لا تفصل بين الدين والسياسة، بل تنظم العلاقة بينهما على نحو يسمح بممارسات شبيهة بوثيقة الأزهر. الدولة المدنية تحظر احتكار الحديث باسم الدين فى السياسة، إلا أنها لا تمنع تفاعل المؤسسات الدينية مع السياسة والتعبير عن موقف من قضاياها بصورة غير ملزمة. المؤسسات الدينية هنا ينظر لها كمستقر الضمير الجمعى للوطن وللمواطنين شأنها فى ذلك شأن مؤسسات مدنية كالجامعات والسلطة القضائية العليا والإعلام الوطنى الجاد. ومن ثم لا يعد صدور وثائق سياسية المضمون عن المؤسسات الدينية تجاوزا لمحظور، بل إسهاما مقبولا فى الجدل المجتمعى العام والحوار حول قضايا الساعة. الدولة المدنية تحظر اختزال السياسة وقضاياها إلى مضامين دينية ومواقف رجال الدين أو برامج وبيانات جماعات دينية، إلا أنها لا تحارب التفاعل بين هؤلاء وبين سياسيين ومفكرين ذوى منطلقات وضعية طالما انتفى ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة ونظر لكل الاجتهادات باعتبارها متساوية فى شرعية تبنيها والدفاع العلنى عنها. وثيقة الأزهر الشريف بهذا المعنى هى دليل تفاعل وحوار مشروع بين مؤسسة الدين الإسلامى الرسمية فى مصر ونخبة من مفكريها ومن قواها السياسية، والهدف هو الإسهام فى الجدل الدائر حول دولة المواطنة والقانون والحريات وحقوق الإنسان وعلاقة كل هذا بمبادئ الشريعة والمرجعية الدينية. إسهام الوثيقة لا يدعى احتكار الحديث باسم الدين فيما خص المواطنة ولا يدعى احتكار الحديث باسم الدولة المدنية وما تستدعيه من مضامين ومفردات إن وضعية أو دينية. مجرد إسهام فى جدل دائر له الكثير من المدخلات. بهذه المعانى لا يوجد تناقض بين الدفاع عن الدولة المدنية وبين تبنى وثيقة الأزهر. بل نحن أمام بداية حقيقية لحوار حر طال انتظاره بين الأزهر وبين المفكرين والقوى السياسية، لعودة الأزهر لدوره الحيوى فى التعبير عن الضمير الجمعى للوطن وللمواطنين.