زفَّت إلينا صحف الأربعاء الماضى (27/5) خبر الافتتاح الرسمى لأول قاعدة عسكرية فرنسية على سواحل الخليج العربى. ورأينا على الصفحات الأولى صور الرئيس الفرنسى وهو يتمشى مختالا فى أبوظبى، مصحوبا ببعض المسئولين الإماراتيين. وقد ظهرت فى خلفيته بارجة فرنسية ضخمة اصطف أمامها طابور طويل من جنود البحرية الفرنسية. وعلمنا من الكلام المنشور أن هذه ليست أول قاعدة عسكرية فرنسية فى منطقة الخليج فحسب، وإنما هى الأولى منذ خروج الاحتلال الفرنسى من أفريقيا. علمنا أيضا أن تجهيز القاعدة استغرق 18 شهرا تقريبا، وسيعمل بها ما بين 400 و500 عسكرى فرنسى، يتوزعون على ثلاثة مواقع هى: قاعدة بحرية فى ميناء أبوظبى، وقاعدة جوية. إضافة إلى معسكر للتدريب على القتال فى المدن وفى المناطق الصحراوية. فى الافتتاح أعلن أن «معسكر السلام البحرى»، وهو الاسم الحركى للقاعدة العسكرية، يشكل مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين فى إطار «معاهدة الدفاع المشترك» التى سبق توقيعها عام 1994، وقال الرئيس ساركوزى فى تسويقه للعملية: إن القاعدة العسكرية تشكل «رسالة سلام» إلى المنطقة بكاملها، وأضاف أن الوجود العسكرى فى أبوظبى دليل على أن فرنسا كقوة عالمية تمارس مع «حليفتها الإمارات» دورا فى الدفاع عن الاستقرار فى منطقة تشكل قلقا عالميا. فى حدود علمى، فإن هذه هى المرة الأولى التى يحتفل فيها بإقامة قاعدة عسكرية أجنبية على أرض عربية. صحيح أن ثمة قواعد عسكرية أمريكية كثيرة فى العالم العربى (كانت مجلة نيوزويك قد نشرت فى شهر فبراير عام 2003 «قبل غزو العراق» خريطة ل35 قاعدة عسكرية فى العالم العربى)، لكن هذه القواعد لاتزال غير معلنة رسميا وبعضها أقيم تحت مسميات مختلفة (تسهيلات مثلا). وفى التراشق السياسى الذى يحدث أحيانا بين الدول العربية، يعير البعض ويجرَّحون جراء اتهامهم باستقبال قواعد أجنبية على أراضيهم. وبالمناسبة فإن وجود قاعدة فرنسية فى منطقة يفترض أنها ساحة للقواعد الأمريكية يثير الانتباه. ولا يفسر إلا بحسبانه من مظاهر التنافس أو التنسيق بين الدولتين الكبيرتين. وقد علق على ذلك أحد الخبراء بقوله إننا فى الماضى كنا نتحدث عن تنويع مصادر السلاح، لكننا الآن دخلنا طورا جديدا انتقلنا فى ظله إلى مرحلة تنويع القواعد العسكرية الأجنبية. جيلنا كان يعتبر وجود القواعد العسكرية الأجنبية من الكبائر المحرمة سياسيا. وإلى عهد قريب كانت الثقافة السائدة فى العالم العربى تصنف تلك القواعد بحسبانها فعلا فاضحا لا يتحقق الاستقلال إلا بعد الخلاص منه. ولكن هذه الثقافة انتكست بشدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بحيث أصبح وجود تلك القواعد حدثا عاديا يحتفى به رسميا وعلنا، وتبرزه الصحف وكأنه إنجاز سياسى، الأمر الذى يشهد بمدى تدهور الثقافة السياسية السائدة. الحدث يستدعى ملف أزمة النظام العربى، الذى كانت اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول العربية من إفرازاته. ويثير أكثر من سؤال حول الملابسات التى دفعت دولة الإمارات وغيرها من دول الخليج إلى محاولة البحث عن «كفيل» غربى يؤمنها، كما يثير سؤالا حول خيارات دولة الإمارات فى مواجهة ما تعتبره تطلعات إيرانية، وهل تكون بالسعى لإحياء النظام العربى أم بتوقيع اتفاقية عدم اعتداء مع إيران أو الاحتماء بالدفاع المشترك مع فرنسا وإقامة قاعدة عسكرية لها على أراضيها؟. أيا كانت الإجابة على تلك الأسئلة، فليتنا نتفق على أن الكبائر والموبقات السياسية لا ينبغى لها تحت أى ظرف أن تصبح من المباحات، لأنه فى السياسة كما فى الدين يظل الحرام بيِّنا والحلال بيِّنا. ولا مجال لاعتبار التطوع باستقدام القوات الأجنبية من المشتبهات.