حاول بيل كلينتون أن يصنع طريقا ثالثا. والآن يمهد الرئيس أوباما هذا الطريق. وهذا أمر مثير، لكنه مقلق أيضا. وخلال الأسبوع الماضى، اتضحت طبيعة مشروع أوباما السياسى على نحو أكبر. فهو يسعى إلى إرساء دعائم مؤسسة سياسية جديدة ومستقرة، تميل قليلا نحو منطقة يسار الوسط، لكنها تشمل الجميع فيما عدا من هم فى أقصى اليمين. ولا شك أن تلك فكرة حيوية. ذلك أن واشنطن لم تشهد مؤسسة سياسية ليبرالية منذ منتصف الستينيات. وبالطبع فإن تعبير «مؤسسة ليبرالية» له وقع فظيع على أسماع الكثيرين، لذلك لن يستخدمه أوباما أبدا. غير أن أولئك الذين قادوا المؤسسة الليبرالية وقت ذروتها استطاعوا إنجاز الكثير، بدءا من الرعاية الصحية، إلى كوبونات الغذاء، إلى مشروع «هيد ستارت» للتعليم والصحة، إلى تقديم الحكومة الفيدرالية معونات للمدارس. وكان إنجاز المؤسسة الليبرالية الأكثر مدعاة للفخر هو قانون الحقوق المدنية الذى مهد الطريق لانتخاب أول رئيس أمريكى من أصل أفريقى. غير أن المؤسسة الليبرالية كانت أيضا صارمة فيما يتعلق بنهج السياسة الخارجية والأمن القومى. فلم يكن استخدام تعبير «ليبرالية الحرب الباردة» أمرا بلا مغزى. كما لم تكن مصادفة أن تشكل حرب فيتنام دحضا لهذه الفلسفة. فنتيجة الخوف من أن يؤدى انتصار الشيوعية فى فيتنام إلى إنعاش انتقادات اليمين المتطرف لما يزعمون أنه ضعف الليبراليين، أشعل الرئيس الأمريكى السابق ليندون جونسون الذى كانت يطمح فى أن يصبح مصلحا اجتماعيا عظيما نار حرب طاحنة فى جنوب شرق آسيا. ونحن نعرف نتيجة ما حدث بعد ذلك. غير أن الجانب المربك فى سعى أوباما لتشكيل تحالفه السياسى الجديد، هو أن إقامة مثل هذا التحالف توجب عليه أن يبعث برسائل مختلفة نوعا ما للعناصر الفاعلة فيه. وعلى سبيل المثال، دعا البيت الأبيض بعد ظهر الخميس الماضى صحفيين، معظمهم من كتاب الرأى، كى يطلعهم على فحوى خطاب الرئيس بشأن جوانتانامو وسوء معاملة السجناء. ولم يعلم الصحفيون إلا بعد ذلك أنه جرى تقسيمهم إلى مجموعتين، إحداهما أكثر وسطية تضم عددا قليلا من المحافظين المعتدلين، والأخرى أكثر ليبرالية (وكنت أنا من ضمن المجموعة الليبرالية). وألقى الرئيس على كل مجموعة بيانا مختلفا عن ذلك الذى ألقاه على الأخرى وهو ما لم يكن معلوما لنا فى وقته. وبهذه الطريقة استطاع أن يفتن المجموعتين. وكانت فكرة أوباما كما يمكننى أن أجزم تقوم على إطلاع المجموعة الليبرالية على جوانب الخطة التى تمثل قطيعة مع سياسيات جورج بوش، وإطلاع المجموعة الوسطية على الجوانب الأكثر تشددا فى نهج الرئيس، والإشارة إلى أنها تنسجم مع خطوات بوش الأكثر اعتدالا التى اتبعها فى فترة رئاسته الثانية. وساهم الهجوم الذى شنه ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى السابق على أوباما بعد أن ألقى خطابه، إلى حد كبير فى إنجاح وظيفة الترويج المزدوج هذه. وفيما يتعلق باليسار الذى لا تسعده قرارات أوباما حول أمور مثل الاعتقال الوقائى كان الهجوم الضارى الذى شنه تشينى بمثابة تذكرة بمدى تميز أوباما عن سابقيه. فبينما شكا أنصار الحقوق المدنية من بعض أجزاء خطاب أوباما، ركز معظم اليسار هجومه على تشينى . وفى الوقت نفسه، بوسع المنتمين إلى الوسط واليمين المعتل أن يشعروا بالرضا إزاء إقصاء العجوز ديك تشينى ويعلقون على مدى تعقل وواقعية خطط الرئيس. وفى المرحلة الثانية من جهوده الأمنية، يأمل أوباما فى جمع أنصار الحقوق المدنية والمحافظين المعتدلين على نفس الطاولة، لبحث القواعد الخاصة بالمعتقلين. وسوف ينتج عن ذلك قواعد أكثر حماية لحقوق المعتقلين من تلك التى طُبقت فى عهد بوش، لكنها ستكون أكثر تشددا مقارنة برؤى اتحاد الحقوق المدنية الأمريكى. وفى مجال السياسة الداخلية، يسير أوباما أيضا بنفس الخطوة المزدوجة فى اتجاه الوسط واليسار. فهو يدفع بقوة لأجل إقرار برامج سعى إليها التقدميون منذ سنوات ومنذ عقود فى حالة الرعاية الصحية لكن فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية، يميل بحسم إلى الوسط، حيث ينحى جانبا الدعاوى لتأميم البنوك، ويعمل عن قرب مع المؤسسة المالية لإنعاش الاقتصاد. وسوف يعمل أوباما برفق، لأنه يريد سوقا تمويلية أكثر تنظيما، لكنه لن يُعطل الترتيبات الأساسية للرأسمالية الأمريكية. وإذا واصل أوباما السير على سياسته الحالية، فسوف يحقق مصرفيو البنوك الاستثمارية أرباحا أقل قليلا مما جنوه فى السابق، ويدفعون ضرائب أكثر، لكنهم سيظلون أغنياء. إن المؤسسة التى يسعى أوباما إلى إرساء دعائمها سوف تجعل البلاد فى حالة أفضل أكثر مساواة وعدالة وأكثر وعيا بالالتزامات المفروضة على الحكومة بمقتضى الدستور. وجار الآن عزل أقصى اليمين، بينما أصبح الجمهوريون فى حالة ضياع. لكن المؤسسات، فى العادة، تثق أكثر مما يجب فى قدرتها على التلاعب بالبشر والأحداث، وفى استقامتها الأخلاقية. ولا شك فى أن أحدا لا يقدر على إنكار مواهب أوباما السياسية والموضوعية، إلا أنه أى أوباما ما زال يحتاج إلى إدراك حدود سيطرته.