إذا كنا بعد ثورة ينايرالطاهرة نحاول إعادة وجه الحياة فى مصر من جديد بعد أن كادت مصر أن تهلك فى براثن الفساد، لولا هذا الفضل الكبير من الرحمن عز وجل الذى ألهمنا الثبات والطمأنينة، إذا كنا نريد بحق أن نعيد رسم وجه بلدنا من جديد، فلابد أن نعترف بكل صدق ووضوح، أننا نمر بأزمة اقتصادية خطيرة لكنها نتاج طبيعى للثورات المحترمة التى تقوم على أكتاف الشعوب نفسها -وهو ما يدعونا للفخر- والحروب والانتصارات الخالدة لها ثمن، بقدر أهميتها ومكاسبها. ولكن المشكلة الحقيقية هى: طريقة التفكير فى الخروج من الأزمة او حل المشكلة، لا سيما أن التفكير الإبداعى يعنى -فيما يعنى- بطرح المشكلة بوضوح مع وضع وابتكار الحلول المختلفة من أيسر الطرق والمسالك من دون الوقوف عند حل بعينه-أو التمسك به-فربما يكون هو العائق ذاته او ربما يكون سببا فى انتاج مشاكل أخرى. نعلم جميعا أن هناك جهودا تبذل وفق منهج وخطة زمنية-ولا أريد ان أسمع طموحة لأنها تذكرنى بالحكومة السابقة-ولكن هذا لا يمنع فى الوقت ذاته ،أن هناك خيوطا بسيطة، يجب التقاطها من هنا أو هناك حتى لو كانت مجرد أفكار أو رؤى أو تصورات أوخيالات، فكل هذه الأدوات لها دور مهم لا يعنى بالضرورة القضاء على المشكلة رأسا من جذورها وإنما لعلها تسهم بشكل او بآخر فى التخفيف من حدتها أو التقليل من آثارهاأو سد الفجوة الرهيبة بينها وبين الحل الرئيس على الأقل، وذلك أضعف الإيمان. ومن ثم واقتناعا بهذا المبدأ، سأطرح بعض الأفكار التى ربما تحمل وميضا من نور: -أولا:علينا أن ننظر بدقة ووضوح إلى قطاعات الدولة-الأصول والفروع-لنعيد ترتيب أوراقها من الداخل والأهم أن نتخلص من "كراكيب البيت" وأن نقتنع بأهمية وضرورة التخلص منها فورا لأن هذه"الكراكيب" كثيرا ما تكون سببا فى كارثة للمنزل، وهى ايضا مع إهمالها أو تجاهل التعامل معها، او عدم الاعتراف بوجودها من الممكن ان يكون كل هذا سببا فى حدوث ازمات ومخاطر عدة لا حصر لها. وأسمعك عزيزى القارئ تهمس لنفسك :وهل توجد كراكيب فى الدولة؟ وربما تسأل ما معنى الكراكيب هنا؟ وأجيبك نعم توجد كراكيب فى الدولة لا تعد فلا تحصى بل إننى أزعم أنها فرضت وجودا حقيقا وواقعا معاشا فى بلدنا أكثر من الضروريات أو الاساسيات أو الشئون الازمة التى لا غنى عنها، ولعل هذا الأمر كان سببا -فى رأيى-فى ذلك الحال المؤسف والمحزن الذى وصلنا إليه فى بلدنا ،أما الكراكيب فهى كما، نعرف جميعا كل ما لا نحتاج إليه ونظن -أو نجزم-بأننا نحتاج إليه،كل ما ليس له قيمة فاعلة وما ليس له قيمة أصلا، ولكننا نتوهم أن ثمة قيمة تكمن فيه ما هى لا ندرى، وهكذا نعيش مع الوهم ويعيش فينا الوهم حتى نتوه فى طريق لا ينتهى ابدا... أما عن كراكيب الدولة فمنها على سبيل المثال: -هذا الكم الرهيب من المستشارين فى قطاعات الدولة المختلفة والمدهش أن المستشارين يستعينون بمستشارين ايضا.. وهكذا، اعلم أن هناك خطوات تم اتخاذها لتقليل العدد وتخفيض المرتبات ولكن الأزمة الحالية تحتاج إلى وقفة حاسمة للتخلص النهائى من دائرة المستشارين الضيفة والواسعة، إلا اذاعند الضرورة-فضلا عن المستشارين الإعلاميين والمتحدثين الرسميين والمنحدثين الإعلاميين ومكاتب السكرتارية المزدحمة بعدد هائل، وغير هؤلاء ممن يعملون بالإنابة فى وظائف شكلية وليست جوهرية او اساسية. ثانيا: دمج بعض القنوات المتخصصة والإقليمية وكذلك الإذاعات الإقليمية والمتخصصة لا سيما أن اتحاد الإذاعة والتلفزيون يعانى -فيما يعانى-من مديونية مرتفعة للغاية، وقد أشار الشاعر الكبير فاروق شوشة الى ان قناة التنوير كانت تقوم بنفس الدور الذى تقوم به قناة النيل الثقافية فتم -مؤخرا شأن كل القرارات المتأخرة فى مصر-دمج القناتين معا، فلماذا لا تعمم هذه التجربة بحيث يتم -مثلا-دمج القنوات الإقليمية جميعها فى قناتين أو بصراحة الغاؤها ، والأمر نفسه مع القنوات المتخصصة. ودعونى اسأل: ما المردود الثقافى الذى قامت به هذه القنوات التى لا حصر لها؟وما المنجز الحقيقى -بعيدا عن التقارير المكتوبة والكلام المنسق-الذى قدمته؟ هل القنوات الإقليمية أو المتخصصة تحظى بنسب مشاهدة سوى اعداد قليلة ربما من اقارب العاملين بها لحاجة فى نفس يعقوب. الأمر نفسه ينطبق على الإذاعات الكثيرة والمتشعبة،كل هذه النوافذ -وأعتذر عن هذا الطرح - لا تقوم بدور تنويرى حقيقى فعال مؤثر فى المجتمع وإلا ما وصلنا الى ما نحن فيه الآن من مستوى ثقافى وتعليمى متدن. إن هذه القنوات والإذاعات تشكل عبئا على ميزانية الدولة منذ عشرات السنين وكلفت الدولة ولا تزال ملايين الجنيهات التى لا تحصى ولا أخفى عليكم أننى ذات مرة طرحت هذه الفكرة على أحد الإعلاميين الذين يعملون فى الإذاعات الإقليمية من فترة كبيرة وبرغم علامات الدهشة التى بدت على وجهه سألته: هل توجد نسبة مشاهدة أو استماع حقيقى برأيك للقنوات والإذاعات المحلية أو الإقليمية؟ بل سألته بصراحة:هل تتابع أنت شخصيا برامجك المسجلة؟ وبرغم أننى شعرت باقتناعه التام بهذا الطرح إلا انه ظل -لبعض الوقت- يحدثنى عن الأسباب التى دفعت هذه النوافذ للقيام بدور اشبه بما يقوم به الكومبارس فى المسرح او السينما..لابد أن نسأل أنفسنا: ما العائد أو المنجز أو الدور أو الصدى أو المردود أو الناتج الحقيقى والواقعى- وأكرر الحقيقى والواقعى- من وراء هذا المشروع أو الكيان أو هذه النافذة؟ لماذا الإصرار على تجميل البيت بما لا يفيد بل يشوه أحيانا؟لماذا نتكبد مئات الملايين ونحن حتى الآن نعيش ازمة اقتصادية خطيرة؟لماذا نحتفظ بأشياء لا تسهم بأى دور سوى ان غيرنا فعل هكذا أاو اننا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون؟. ثالثا:تتحمل وزارة الثقافة كل عام بقيادة الفنان فاروق حسنى-الذى كدت يوماأن أفقد الأمل فى تركه الوزارة إلا يوم الحشر- عددا كبيرا من المهرجانات والاحتفالات والمؤتمرات التى تكلف الدولة الملايين، فضلا عما يصحبها من ضخب وضجيج اعلامى وكأنها الفتح المبين، مع الكثير من مظاهر التملق والنفاق والرياء بين المشاركين فى هذه الأفراح، وأتذكر من الأيام الخوالى-لا أعادها الله-أننى كنت افتح التلفزيون-لاسيما فى موسم الربيع والصيف حيث موسم الأفراح والموالد-كل بضعةأيام أجد على الشاشة مشهدا بعينه، يتكرر بتفاصيله كاملة بلا تغيير:السيد فاروق حسنى وبجواره السيد أنس الفقى والمهندس أسامة الشيخ ثم رئيس المهرجان صفا واحدا فى نظام وتناسق واتحاد وقوة!. والمهم أن الجميع يمسك فى يده أشياء لامعة "تشبه أطقم المائدة الذهبيةأو الفضية"، وجوه تصعد على المسرح،ووجوه تهبط من عليه،وأياد تصفق، وأعين تراقب وتكتب وتصور وترى وتهمس وتبتسم-كل انواع الابتسامات-وموائد تحمل صنوف الأطعمة والمشروبات،والمهم أن الأشياء التى تلمع فى يد الجميع: الفائز والخاسر، القائم والقاعد والمتكئ الكبير والصغير، ما عدا المشاهد الكريم الذى ينظر فقط إلى الشاشة اللامعة، والعامرة بطقم السفرة،وهو لا يفهم ماذا يحدث الآن. ولماذا يرى المشهد نفسه كل بضعة أيام حيث السيوف اللامعة والوجوه اللامعة، والموائد اللامعة هنا وهناك، ينتهى الفرح بكلمات رقيقة وركيكة للمذيعة التى ارتدت فستانا به كل الالوان-تقريبامع "الميكب الكثيف" ربما ليناسب فترة المساء والسهرةوربما للتصوير وربما لأن كل شئ قبل الثورة فى مصر "كان بزيادة ومجانى وببلاش" وبجوار المذيعة كان يقف غالبا تامر أمين-الإعلامى المحترف والمحترم-والذى كانت ترتسم على وجهه علامات الضيق والضجر أحيانا، لماذا صدقونى لا أدرى حتى الآن.. المهم ان المواطن المصرى كان يتمتع بعدد هائل من الاحتفالات والمهرجانات وتوزيع الجوائزربما أكثر من اى مواطن آخر فى العالم،ويستيقظ فى الصباح ليمارس نشاطه الطبيعى حيث طوابير الخبز والأنانيب وجبال القمامة،بينما أصحاب الفرح يغطون فى سبات عميق بعد هذا المجهود الرائع والرائق. وهكذا كانت مصر قبل الثورة تغط فى سبات عميق، وتنغمس فى مجموعة هائلة من "كراكيب البيت" التى تسبب المشكلات وتعوق التقدم الحقيقى لهذا البلد الطيب. هذه بعض النماذج والأمثلة،وأعلم أن القارئ الكريم لديه الكثير والكثير حول المستشارين والقنوات والإذاعات والبرامج والمسلسلات والمواكب والاحتفالات والأعياد، وسيارات الوزراء ومخصصات الوظائف القيادية، وغير ذلك مما نعرفه ومما لا نعرفه لأن النتيجة واحدة مليارات مهدرة بلا عائد او ناتج اوقيمة وفى المقابل عشوائيات ونسبة فقر مخجلة، لماذا أصبحنا فى مصر نتشبه بالمنزل الذى يمتلك دخلا محدودا لا يكفى لشراء أو تلبية الضروريات وفى الوقت ذاته يتشبث بالانفاق فى الكماليات والمظاهر وتوافه الأمور..أرجوكم تخلصوا من هذه الكماليات والمظاهر الزائفة وتخلصوا من"كراكيب البيت" لأنها السبب فى المشاكل والأزمات الحقيقية.