يخطو المجتمع المدنى خطوات سريعة اليوم نحو خلق وعى سياسى كى ينفض الغبار عن مشاركة سياسية ظلت معلقة لأكثر من ثلاثة عقود. «آه يا ليالى يا ليالى.. يا ليالى الفرح تعالى.. حد يا ناس يقرصنى.. معقولة مشى حسنى.. يا بلدنا يا بسبوسة تستاهلى عمرو موسى»، هكذا هلل الشعب المصرى عند سقوط النظام. اختزلت الأغنية النابعة من رحم الشارع وجوه المرشحين للرئاسة فى الفترة المقبلة، بدءا من الدكتور محمد البرادعى إلى العالم أحمد زويل مرورا بالمحامى أيمن نور وعضو مجلس الشعب السابق حمدين صباحى ووصولا للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى. ارتجال يحمل فى طياته تساؤلا فرض نفسه على الساحة وعلى الأحاديث اليومية فى البيت أو المقاهى أو وسائل المواصلات: كيف سنختار رئيس مصر القادم وأعضاء البرلمان؟ حيرة الاختيار انعكست أيضا على منتديات الحوار الإلكترونى ومواقع التواصل الاجتماعى. فقد خصصت صفحة على موقع الفيسبوك لاستقبال مقترحات المصريين بصدد الوجوه المؤهلة لتولى الرئاسة فى الفترة المقبلة، وفى الوقت ذاته ظهر قلق البعض وبصفة خاصة الأقباط من وصول الإخوان المسلمين أو فلول الحزب الوطنى للسلطة. تقول نرمين، موظفة ثلاثينية بإحدى شركات الطيران: «أصبح هذا الموقع مصدرا مهما للمعلومات ومرجعا سياسيا لا يضاهى. فقد تعرفت من خلاله على السير الذاتية لبعض الشخصيات البارزة والمؤهلة للقيادة مثل الدكتور حازم الببلاوى، الدكتور عصام شرف وغيرهما». الشعب المصرى فى مجمله ظل بعيدا عن دهاليز السياسة بعكس دول أخرى مثل لبنان على سبيل المثال والتى تعد اللعبة السياسية فيها جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية. فالدكتور أحمد يحيى عبدالحميد أستاذ علم الاجتماع السياسى بجامعة قناة السويس يرى أن الموروث الثقافى للشعب المصرى يؤكد على السلطة الأبوية فى السيطرة على مقدراته، وتظهر هذه السلطة باختلاف المستويات بدءا من الأسرة وحتى رئاسة الدولة. «فالشعب ماسك فى ذيل الحكومة وكأنها أمه التى ولدته»، كما جاء على لسان الفنان خالد الصاوى فى فيلم «عمارة يعقوبيان» عن رواية علاء الأسوانى، حيث جسد شخصية عضو فاسد فى مجلس الشعب. أما بعد الثورة، طبقا لحديث أستاذ الاجتماع السياسى، وجد الشعب نفسه فجأة مثل الطفل الذى انتزع حريته بعد سنوات من كبت الحريات والطغيان والإحباط، وأصبح عليه أن يقرر مصيره، مما فرض عليه تحديا دون أى مقدمات لأنه اعتاد ألا يشغل باله بالاختيار. كما يضيف أستاذ الاجتماع: «نحن اليوم فى مرحلة (المابعدية) كما يعرف علم السياسة المرحلة اللاحقة للثورات، لذا نحتاج لفكر سياسى أكثر من فكر ثورى». وسط هذا المناخ يبدو المجتمع المدنى حاليا فى سباق مع الزمن من أجل محو الأمية السياسية للشعب. وتوضح نهاد أبوالقمصان، رئيسة الجمعية المصرية لحقوق المرأة: «هناك مبادرات جادة وسريعة للمجتمع المدنى من أجل خلق وعى سياسى. فقد توحدت صفوف الجمعيات الأهلية المختلفة تحت مظلة ائتلاف التعليم المدنى الذى يضم حاليا 200 جمعية، قامت بدورها بتوحيد أجندتها بهدف خلق وعى سياسى لدى الناس». فهناك، على حد قول السيدة أبوالقمصان، شرائح عريضة من الشعب تجهل الكثير عن المفاهيم السياسية والهياكل التنظيمية لمؤسسات الدولة وبنود الدستور، كما لا تفهم الفارق بين الفكر اليسارى والعلمانى والدينى إلى ما غير ذلك. وقد لا تقتصر عدم المعرفة على من يجهلون القراءة والكتابة، لأن المشكلة ذاتها قائمة بالنسبة لحاملى المؤهلات العليا. كل هذه الأمور تبدو كالطلاسم للبعض، ويسعى ناشطو المجتمع المدنى لفك شفرتها. هناك مثلا فريق موسيقى من الشباب يسعى لتبسيط المفاهيم السياسية عبر كليبات أو أغنيات يتم بثها مباشرة عبر موقع اليوتيوب أو حتى تحميلها كرسائل على الهواتف المحمولة كى يسمعها الأفراد فى أى مكان. وتقول نهاد أبوالقمصان: « فريق (أنا المصرى) كان يهدف حتى قبيل اندلاع الثورة لتعليم الناس فى الشارع ممارسة الديمقراطية والتحول السياسى الذى يشهده المجتمع الآن». يركز نشطاء المجتمع المدنى كذلك على تأهيل عدد لا بأس به من الشباب المتطوع لينطلقوا بدورهم فى دوائر أوسع للتواصل مع الناس، كل جمعية تؤدى دورها بحسب موقعها الجغرافى، هذه هى طريقة التعليم الانتخابى وهى الآلية نفسها التى أتبعتها جنوب إفريقيا وأثبتت نجاحا كبيرا بعد سقوط الحكم العنصرى هناك. ولأن كل مجتمع يضم خمسة قوى أساسية: الطلبة والعمال والمثقفين والجيش والشرطة، فالعمل من أجل خلق وعى فى المرحلة المقبلة لابد أن يركز على الشريحتين الأولى والثانية. يؤكد الدكتور أحمد يحيى عبدالحميد: «العديد من أساتذة الجامعة بدءوا بالفعل فى لعب هذا الدور عبر التواصل مع الطلبة. عن نفسى عملت فى الفترة التى سبقت الثورة على تزويد طلابى بثقافة حقوق الإنسان وما تنطوى عليه من حق التعبير وإبداء الرأى والممارسات الديمقراطية». من جهة أخرى تعتقد نهاد أبو القمصان أن التجمعات غير الرسمية سواء فى العزاء الأفراح أو أى أشكال للتجمعات الأخرى فى الأماكن العامة مثل المساجد أو الكنائس أو النوادى أو المقاهى سيحاول أن يوجد فيها ممثلون من المجتمع المدنى وذلك من أجل الحديث مع الناس. بصيغة أخرى «يجب أن نذهب إلى الناس حيث يكونون» هكذا تقول أبو القمصان. وكما أن مران الكرة من أجل المباريات المهمة يبدو مصيريا، فإن المران السياسى لابد أن يبدأ من الآن. يقترح الدكتور عاطف العبد، أستاذ الرأى العام ورئيس قسم الإذاعة بكلية الإعلام جامعة القاهرة «لابد أن يعلن من الآن أسماء المرشحين للرياسة والبرلمان حتى يتمكن المواطنون من تكوين رأى بصددهم والتزود بمعلومات حقيقية عنهم». فطرق الاختيار لدى كثيرين تعتمد على الانطباعات الشخصية والمعلومات السمعية التى يتداولها الناس عن مرشح ما. فحنان، عشرينية، عاملة، كانت تبدى تعاطفا مع إحدى الوزيرات السابقات على الرغم من سوء أدائها لا لشىء سوى أن هيئتها الخارجية تبدو أقرب للعاملات فى المصنع الذى تعمل به. لذا كانت ترى أنها «محترمة». من ناحية أخرى تبدى غادة، مدربة، أربعينية تحفظا على أحد مرشحى الرئاسة رغم اقتناعها بأنه الأصلح للمرحلة المقبلة لأنها سمعت بأنه يحتسى الخمر. يعطى إذن الدكتور يحيى عبدالحميد وصفة سهلة لكنها تحتاج لبعض الجهد من أجل حسن الاختيار. فهو يرى أنه لابد أن يدرك كل مواطن فى الفترة المقلبة بأن صوته مسئولية كبيرة ومؤثرة لذا فعليه أن يبذل مجهودا كى يختار بناء على أسس علمية. وبالتالى لابد أن يطرح كل منا وهو بصدد اختيار الرئيس أو عضو مجلس الشعب عن السيرة الذاتية لهذا الشخص، وسمعته، ونزاهته وغيرها من الأشياء التى تتعلق بالنواحى الشخصية. وبعد ذلك يقوم بالاطلاع على البرامج الانتخابية لكل المرشحين والمفاضلة ومطابقة ذلك برؤيته للمستقبل، الآليات والبرنامج الزمنى الذى سيقوم المرشح تنفيذ برنامجه خلاله حتى يقوم بمحاسبته بعد ذلك على ما تحقق. وللإعلام إذن دور مهم فى المرحلة المقبلة. فكما كان الإعلام الرسمى لفترة طويلة بوقا للحزب الوطنى، فلابد اليوم أن يفسح المكان لمرشحى الأحزاب الأخرى كى تتواصل مع الناس. ثمة تحديات تواجه تحركات المجتمع المدنى اليوم من أجل المران على الممارسة الديمقراطية. الأمية التى تربو على 26 % وفقا للأرقام الرسمية والتى قد تعرقل المسيرة الديمقراطية. هذا بالإضافة لوجود رواسب سيئة للممارسات الديمقراطية السابقة والتى تتعلق بالنزعات القبلية والدينية والطبقية والمصلحة الشخصية. فهناك تساؤل يطرح إذن نفسه: هل سيحسن المصريون الاختيار بغض النظر عن تلك الاعتبارات؟ قد يبدى البعض تفاؤلا مشوبا بالحذر. فقد يرى الدكتور عبدالحميد أن الأمية لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالوعى السياسى بدليل أن الريف الذى ترتفع فيه نسب الأمية عن الحضر كانت دائما مشاركته فى الحياة السياسية أفضل. ومع ذلك يبدى المحلل السياسى تحفظا على طريقة الاختيار والمعايير التى تحكمها. الأمر الذى يدعو أبو القمصان إلى أن تتنبأ أن تكون التجربة الديمقراطية الثانية أفضل من الاختيار هذه المرة. «فالشعب مازال فى مرحلة kg1 سياسة» هكذا تختتم أبوالقمصان حديثها.