ما رأيك فى السيناريو التالى: فى يوم النكبة (15 مايو) نحو نصف مليون فلسطينى يتظاهرون فى الضفة الغربية ونحو مائة ألف فى القدسالشرقية، إضافة إلى نحو نصف مليون آخرين من عرب 48 (داخل الخط الأخضر) ينضم إليهم ما يقرب من 100 ألف يهودى إسرائيلى. الهتاف موحد: «الشعب يريد إنهاء الاحتلال». أما مظاهرات الضفة فسوف تتمركز فى مواجهة الجدار، فى حين تتجمع مظاهرات القدس حول الطريق رقم (1) المؤدى إلى البلدة القديمة، وتنطلق مظاهرات الداخل فى مدن الجليل: الناصرة وحيفا وعكا، إضافة إلى مظاهرة كبرى فى ميدان «رابين» بتل أبيب. هذه المظاهرات سوف تستلهم روح ميدان التحرير فى مصر، وسوف يكون هتافها الموحد: «سلمية.. سلمية». إنه هتاف صار العالم كله يعرفه ويفهمه، ويعلم تماما مدلوله، كما يدرك أيضا قوته المزلزلة ومفعوله الأكيد. وسوف توحد هذه المظاهرات الفصائل والجبهات، لأنها ستكون تماما كما كانت مثيلاتها فى القاهرة مظاهرات شبابية عابرة للتيارات والانتماءات، بل إنها سوف تكتسح أمامها كما حدث فى مصر الحركات والقيادات القديمة العاجزة عن الفعل. هل هذا السيناريو قابل للتحقق؟.. نظريا نعم. فالمجتمع الفلسطينى فى جوهره مجتمع شاب، بل إنه من أكثر المجتمعات العربية شبابا، وهو أيضا مجتمع مسيس حتى العظم، وهو ثالثا مجتمع جرب الانتفاضات ويعرف معنى النضال السياسى فى الشارع. ما الذى يمكن أن تفعله إسرائيل إزاء موقف كهذا؟ سوف تجرب إسرائيل «الحل الأمنى»، إذ إنها (لاحظ الشبه مع النظم العربية فى هذه الحالة) لا تملك غيره لمواجهة تحدى المظاهرات الغفيرة السلمية التى تنطلق بشكل متزامن فى أكثر من مكان. وهنا، فإن قدرة إسرائيل على مواجهة تحدى الجماعات المسلحة التى تقوم بعمليات عنف، أو تقوم إطلاق الصواريخ من غزة تُعد أكبر بكثير، وبما لا يقارن، بقدرتها على مواجهة تحدى المظاهرات السلمية، تماما مثلما كانت قدرة النظام المصرى أكبر بكثير فى مواجهة تحدى الإخوان والجماعات الإسلامية، مقارنة بقدرته على مواجهة ثورة شعبية سلمية. فى الحالة الأولى الخصم معروف.. له ملامح وعنوان واضح، يمكن اختراقه والتنبؤ بسلوكه اعتمادا على السوابق، أما فى الحالة الثانية فالخصم بلا وجه أو قيادة محددة بحيث يمكن رصده.. هو خصم مائع لا يمكن التنبؤ بسلوكه، ويحتاج إلى قدر هائل من الخيال للتعامل معه، وهو خيال يفتقر إليه أى نظام أمنى، حتى النظام الإسرائيلى مع التسليم بقدراته ومهاراته. إن هذا الوضع هو أشبه بأسراب هائلة من الطائرات التى تطير على ارتفاع منخفض جدا فلا تستطيع الرادارات رصدها، لأنها اعتادت على رصد الطائرات التى تحلق فوق ارتفاع معين. هذا ما حدث فى مصر، وهذا ما يمكن أن يحدث فى فلسطين أيضا. المشكلة الرئيسية التى تواجه هذا السيناريو هى نفس المشكلة التى واجهت النضال الفلسطينى طوال تاريخه: الانقسام حول الخيارات. لقد انقسم الفلسطينيون، طوال تاريخهم، حول خيارات النضال والأهداف والأجندة. وأدى هذا الانقسام إلى خسارة الفلسطينيين لعنصر لا غنى عنه لأى حركة وطنية: أن يكون لها الموقف الأخلاقى الأعلى، أى أن يدرك الجميع بلا مواربة أنها صاحبة حق. لقد أدرك كل من غاندى ومانديلا هذه الحقيقة البسيطة، وقررا السير فى طريق يضمن لحركة التحرر التى تزعمها كل منهما الاحتفاظ بالموقف الأخلاقى الأعلى، وقد انتهج كل منهما هذا النهج فى ظروف مختلفة ولكن لسبب واحد وهو الخلل الهائل فى موازين القوى بين الحركة الوطنية التى كان يقودها كل من الزعيمين، وبين سلطة الاحتلال. أدرك كلٌ من الزعيمين أنه لا يمكن منازلة الخصم فى ملعبه، ولكن ينبغى جره إلى الساحة التى يمكن هزيمته فيها. اليوم، يمكن الزعم بأن غالبية الفلسطينيين يدركون الأثر السلبى الذى أدت إليه عسكرة الانتفاضة الثانية، فهذه الانتفاضة بذرت بذور الانقسام الفلسطينى وعمقته، كما هدمت المجتمع وأنهكته وأدخلته فى حالة من الفتنة والفوضى والفلتان الأمنى كانت إسرائيل هى المستفيد الأول من ورائها. المتابع للقضية الفلسطينية يعرف تماما أن الشعب الفلسطينى فى الضفة وغزة قد أصابته حالة من الإنهاك والإحباط، فالمفاوضات على مدى العشرين عاما الماضية لم تؤد إلى شىء، والقضية فقدت أسهمها على الصعيد الدولى وتوجهت الأنظار بعيدا عنها، وهناك ما يشبه التوافق العربى غير المعلن أحيانا والمعلن فى أحيان أخرى على الحفاظ على الوضع القائم، وإن كان هذا لا يمنع الخروج بتصريحات تجميلية هنا، أو القيام بتحركات استعراضية هناك. ولكن يظل الجوهر هو أن الوضع الحالى مريح للجميع: للنظام العربى فى مجمله، وللإسرائيليين، بل لبعض الفلسطينيين الذين أنهكتهم سنوات من النضال بلا طائل، إذ أدى بهم هذا النضال فى أحيان كثيرة إلى وضع أسوأ بحيث ضاعت أعمارهم ومستقبل أبنائهم هباء. برغم هذا الإحباط، وبرغم الشعور باليأس وقلة الحيلة فى مواجهة قوة قاهرة، إلا أن ثمة طاقة نور انفرجت ليتسلل منها شعاع أمل دافئ. هذه الطاقة انفرجت فى القاهرة.. وبالتحديد فى ميدان التحرير، حيث اكتسبت المظاهرات السلمية قوة غير مسبوقة ومعنى لم يكن يتخيله أحد، ليس فى الهند أو جنوب إفريقيا هذه المرة، وإنما فى قلب الشرق الأوسط، وعلى مرمى حجر من إسرائيل. لقد كان من بين الفلسطينيين من ينادى بهذا النمط من النضال السلمى غير العنيف، ولكنهم كانوا قلة معزولة حالمة، وكانوا يمارسون أحلامهم الصغيرة كل يوم سبت فى مظاهرات أمام الجدار فى قرية بلعين، غالبا ما تنتهى بالرصاص المطاطى والغاز المسيل للدموع. اليوم اكتسب هذا النضال معنى وقوة جديدة بعدما نجح فى إزاحة واحدة من أعتى ديكتاتوريات الشرق الأوسط، وأظن أن فلسطينيين كثيرين سوف يدركون مغزى هذا الحدث وعلاقته الوثيقة بنضالهم. ولكى لا تأخذنا الأحلام بعيدا فإن على الفلسطينيين أن يدركوا أنهم فى ممارستهم لهذا النوع من النضال أمام تحديات رئيسية: أولها، الحفاظ على سلمية التحرك ومواجهة من يخرج عن هذا الإجماع مهما كانت ضغوط الإسرائيليين الذى سيحاولون الدفع بهذه المظاهرات للجوء للعنف لتبرير استخدامهم لعنف أشد، أى جر الفلسطينيين لساحتهم. وثانيها، أن هذا النضال يستهدف فى الأساس كسب الشرعية وتدعيم الموقف الأخلاقى الأعلى، وبالتالى فسوف تربح القضية كثيرا إذا انضم إليها قطاع من اليهود الإسرائيليين المناصرين للسلام (والتقدير أن هؤلاء يمكن أن يصل عددهم إلى نحو نصف مليون). أما ثالث التحديات فهو وحدة الهدف، فالتوحد خلف هدف رحيل مبارك جنب المظاهرات المصرية الانزلاق إلى هوة التناحر السياسى ونجح فى كسب متعاطفين مع الحركة من المتفرجين الذين اعتادوا السلبية، وهنا فإن الهدف ينبغى أن يكون «إنهاء الاحتلال»، أى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للضفة (بما فيها القدسالشرقية) وغزة... وهو هدف عليه إجماع دولى كاسح، ولا يمكن أن يجادل أحد فى شرعيته. فى عبارة بسيطة: إن رفع شعارات مختلفة وأجندات متباينة لا يعنى سوى القضاء على الحركة، وإنزالها من حالة الثورة إلى حالة السياسة. والحقيقة أن بوادر التحرك فى الاتجاه الخطأ ظهرت عندما اختلطت الدعوة إلى الانتفاضة الثالثة على «فيس بوك» بإشارات إلى العنف، مما سهل على الجانب الإسرائيلى الطلب إلى مؤسس الموقع إغلاق الصفحة، وهو ما حدث. وأخيرا، فعلى الفلسطينيين أن يدركوا أنهم ولظروف تتعلق بطبيعة الاحتلال الإسرائيلى والمنظومة الأمنية التى أقامها (الجدار/ الحواجز ونقاط التفتيش/ التغلغل الاستخباراتى) لن ينالوا الحرية بفعل التظاهر وحده، وإنما ستكون المظاهرات مقدمة لتفاوض، ولكن من موقع تسنده قوة هذه المرة.. قوة أخلاقية لها دعم عالمى وقوة على الأرض مستعدة للتضحية وقادرة على تنظيم مظاهرات سلمية مستمرة داخل الخط الأخضر وفى الضفة والقدس. إن الفلسطينيين يحتاجون إلى حدث يشبه حرب أكتوبر، أى تحرك يعيد لهم كرامتهم وثقتهم بأنفسهم، ويعيد قضيتهم على رأس الأجندة الدولية التى لا تحفل بالقضايا «الباردة». ولا شك أن مصر من موقعها الجديد هى الأكثر تأهيلا واستعدادا، دولة ومجتمعا، لتدعيم هذا النوع من النضال السلمى ومساندته ودعمه بكل الأساليب المشروعة والعصرية.