من أهم النتائج التي حققتها ثورة مصر الديمقراطية حتى الآن أنها أزاحت القناع عن وجه الغرب الحقيقي، فإذا بنا أمام لوحة رديئة، رسمت ملامحها بألوان النفاق. فمنذ عقود، أصبحت الديمقراطية سلعة غربية، يتفاخرون بها ويبيعونها في كل سوق. يضعونها في علب زاهية الألوان ويعرضونها في المعارض الدولية. يستعملونها وسيلة للضغط والابتزاز وبسط الهيمنة، وباسمها يقسّمون العالم إلى محاور للشر وأخرى للخير، وتحت رايتها يحركون دبابات الغزو والاحتلال. على مدى أربعة عقود، سيطرت على مصر مجموعة صغيرة من الحكام والتجار والشرطة. نهبت البلد وما فيه، وحولته إلى موطن للفقر المدقع لأغلبية الشعب، وللثراء الفاحش للزمرة الحاكمة. حولته إلى معسكر لقمع أبسط حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وفرضت عليه قوانين طوارئ دائمة، في ظلها سلطت على الشعب قطعان الشرطة العلنية والسرية وعصابات إجرامية أجيرة. حرمت الشعب من كرامتة ومن حقه في التعليم والعمل والصحة، ومن حقه في التعبير والتنفس الحر. صار موت الشباب في أقبية التعذيب أمرا عاديا، وصار الخبز اليومي للكثرين من المصريين مهمة شاقة، وأحيانا مستحيلة. وفي مصر الأبية، بات الأحياء يشاركون الموتى في مراقدهم. وفي أثناء ذلك، أطل علينا دعائيو الحزب الحاكم من شاشات الفضائيات، وقدموا لنا خطابات مفعمة بالعجرفة عن استقرار مصر وديمقراطية مصر، وقالوا لكل من انتقد دكتاتورية الحكم واستبداده بأنه يتطاول على مصر، وعلى عظمة مصر، وعلى استقرار مصر وديمقراطيتها المزعومة. وذكّرونا بأنهم يتحدثون باسم مصر العظيمة، ومصر الحضارة، وبأنها أكبر من أن يتطاول عليها الصغار. ثم قام شباب مصر وتداعوا للوقوف في ميدان التحرير حاملين يافطة بسيطة كتبوا عليها: نعم للكرامة. لا للجوع. نعم للحرية. لا للاضطهاد. وخلال أيام، جاء 25 كانون الثاني/ يناير، فصار النبع جدولا، وصار الجدول نيلا، وصار النيل بحرا هادرا. وتحول الغضب إلى أنبل ثورة سلمية ديمقراطية في التاريخ المعاصر. حب الغرب للديمقراطية، جعلك تتصور أنك ستفتح عينيك على مقرات الحكم في الغرب وبرلماناته ومؤسساته، لتراها غاصة بأناس يرقصون ويذرفون دموع الفرح. فها قد حانت الساعة التي طال انتظارها. أخيرا، جاءت الديمقراطية تدق أبواب مصر. هاهم شباب مصر يقودون ثورة سلمية ديمقراطية. هاهم يرددون صدى صيحات شباب تونس الذين خلعوا الدكتاتور العتيق. هاهي الديمقراطية تمتد إلى رحاب أوسع وتدق جذورها في أراض جديدة. حب الغرب للديمقراطية جعلك تتصور أن ذلك الغرب تملّكته مشاعر الإعجاب، وظلت عيونه شاخصة إلى الشباب والفتيات في ميادين مصر وهم يقدمون أنفسهم قرابين على مذبح الحرية والديمقراطية. وجعلك تتصور أن الغضب تملّكهم وهم يشاهدون آلة القمع الوحشي تحاول إطفاء نور الحقيقة، وتحطم وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وتعتدي على الصحفيين والصحفيات، وتطلق الحيوانات البشرية وغير البشرية لتفترس طلاب الحرية من شباب مصر وفتياتها. وجعلك دفاع الغرب عن الديمقراطية تتصور أن حكامه سيدينون الطاغية وسيشيدون بثوار مصر الشرفاء، الذين استقبلوا الرصاص بصدور عارية وفضلوا الموت بكرامة على حياة الذل. كان طبيعيا لكل من تابع خطاب الغرب المتغني بالديمقراطية أن يتصور كل ذلك وأكثر من ذلك. ولكن ثورة مصر فتحت العيون على حقيقة مغايرة تماما. عقدت الرئيسة الجمهورية الجديدة للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي، إلينا روس ليتنين، جلسة استماع حول تقصير المخابرات الأمريكية في توقع ثورة شباب مصر. وقالت أنه "ينبغي للسيد مبارك أن يحدد موعدا لإجراء انتخابات شرعية ديمقراطية ومعترف بها دوليا" وأضافت قائلة "ينبغي للولايات المتحدة أن تتعلم من أخطائها السابقة وأن تدعم عملية يشارك فيها مرشحون يفون بمعايير قادة الدول المسؤولة - مرشحون ينبذون الإرهاب علنا ويدعمون سيادة القانون، ويعترفون بمعاهدة السلام بين مصر ودولة إسرائيل اليهودية". وحيال هذا الكلام، لا بد للمرء أن يسأل، ما دامت الولاياتالمتحدة هي التي ستحدد معايير المرشحين ونتائج الانتخابات، لماذا تجري الانتخابات أصلا؟ وإذا كان السيد مبارك، الذي ثار الشعب المصري لإسقاط نظامه الدكتاتوري، هو الذي يجب أن يجري الانتخابات، ألا يعني ذلك أن الانتخابات في مصر لكي تكون "ديمقراطية" يجب أن تعبر عن إرادة الولاياتالمتحدة وليس عن إرادة الشعب المصري؟ أما رئيس الكونغرس الأمريكي الأسبق، نوت غينغريتش، الذي يطمح إلى ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمة، فقد أعرب عن قلقه من ثورة مصر وحذر من إمكانية أن "تنضم مصر خلال الأسابيع القادمة إلى إيران ولبنان وغزة". ومن جانبه، أعرب عضو الكونغرس الديمقراطي أنتوني وينر، عن قلقه من "الديمقراطيات العربية ...التي تنتخب أعداءً لإسرائيل". الديمقراطية إذا غير مقبولة إلا إذا فصلت على أساس مصالح إسرائيل وليس على أساس مصالح شعوب المنطقة. ومن الرئيس أوباما إلى وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، ومن نائب الرئيس بايدين إلى قادة الديمقراطيين والجمهوريين، تحدث الجميع عن الديمقراطية وإرادة الشعب، وفي الوقت ذاته، دعموا الرئيس مبارك. ولما تبين أن ثورة الشعب المصري لم تتراجع، ولم تنجح كل أساليب قمعها، تحول الدعم من الرئيس مبارك إلى عمر سليمان. وفي غمرة التناقض الفاضح في الحديث عن الديمقراطية ودعم النظام في الوقت ذاته، تجلت وتأكدت الحقيقة الناصعة بأن السياسة التي تعبر عنها كل التصريحات تستند إلى أساس واحد وهو مصلحة إسرائيل. وبما أن حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ستبدأ في العام القادم، أصبح الولاء للمؤسسات الصهيونية المختلفة في الولاياتالمتحدة أهم هدف في ساحة التنافس السياسي. وقد لوحظ أن جميع أعضاء الفريق الذي قدم النصح للبيت الأبيض بشأن التطورات في مصر هم من الصهاينة المعروفين، وضم الفريق صهاينة بارزين من المحافظين الجدد في إدارة بوش السابقة. ولعل شباب مصر لا يتذكرون هينري كيسنجر، الذي كان أنور السادات يسميه "العزيز هنري"، والذي ارتبط اسمه بمذابح شعوب أمريكا اللاتينية وإندونيسيا وغيرها في سبعينيات القرن الماضي، فقد نصح العزيز هنري الرئيس أوباما بأن يدعم "الديمقراطيين" في مصر، ولكن بهدوء وبطء، وبدون أن يبدو المشروع في مصر مشروعا أمريكيا، لأن الشعب المصري معروف بعزة النفس. وحرصا منه على ضرورة العمل بهدوء، لم يذكر كيسنجر عمر سليمان بالإسم. وكما في الولاياتالمتحدة، كذلك في أوروبا، كان تأييد النظام في مصر بحاجة إلى ذريعة. غير أن هذه الذريعة جاهزة دائما في الغرب. فخطر "التطرف الإسلامي" هو العدو المناوب منذ سقوط المنظومة الشيوعية. وفجأة أصبح الإخوان المسلمون خطرا داهما على مستقبل مصر والغرب. ولم يشفع للحزب نبذه العلني والمتكرر للعنف، فرسموا له صورة مخيفة، رغم أنه التحق بالثورة الشعبية السلمية ولم يكن مبادرا ولا قائدا لها. وكأنهم في الغرب لم يلاحظوا بأن ثورة مصر ثورة شعبية يشارك فيها كل أبناء الشعب المصري من، المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وكأنهم لم يلاحظوا بأن الأمة العربية بأسرها، بكل طوائفها وأطيافها، تقف إلى جانب الشعب المصري، الذي استرد كرامته واسترد لها كرامتها. وفي لندن ظهر أستاذ جامعي معروف بمواقفه الصهيونية، دافيد سيزراني، في ندوة تلفزيونية، فذهب في تخويفه من ثورة شباب مصر السلمية إلى حد الترويج لفكرة أن تنتهي ثورة ميدان التحرير في القاهرة بمذبحة لا تبقي ولا تذر، وأشار إلى أن نهاية ميدان تيانانمين في الصين هي النهاية المنشودة في القاهرة. فهل لقيت دعوته لذبح الشعب المصري المسالم شيئا من الاستهجان والاستنكار؟ كل ما سمعناه أن مستشارا سابقا لتوني بلير، وهو ماثيو تيلور، الذي شارك في الندوة، وصف كلام الأستاذ بالشجاع (ذا تيليغراف، 7/2/ 2011). هكذا تجلت الحقيقة كما يتجلى الوجه القبيح بعد أن أذابت أشعة الشمس الحارقة كل ما كساه من مساحيق التجميل. فشكرا لشباب وفتيات مصر. شكرا لشهداء الثورة النبيلة، الذين لم يرفعوا الحجاب عن وجه نظام مبارك الديكتاتوري القمعي فحسب، بل كشفوا أيضا خدعة الغرب، الذي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية ويحاول تجميل وجهه بمساحيق النفاق والجبن. ولن ينفع الغرب هذا النفاق. فأبناء مصر، أم الدنيا، يرسمون بدمائهم وعرقهم صورة الكرامة الإنسانية، ويصنعون بسواعدهم تاريخ مصر، ويغيرون وجه المنطقة والعالم. يوسف حمدان إعلامي عربي مقيم في الولايات المتحدة