بغض النظر عن نتائجها، أظهرت ثورة الخامس والعشرين من يناير تناقضات شتى فى ثقافة ووعى الشعب المصرى.. وأحسب أن أكبر ما قد تخسره مصر من الأحداث الجارية هو عدم قدرتنا على رؤية بعض الحقائق التى تكشفت عنها الأحداث. أولا: أظهرت الأحداث عدم استعداد قطاعات من الشعب المصرى لتحمل أعباء التغيير، فيبدو أن الشعب المصرى قد اعتقد أن الثورات تدوم لأيام قليلة يقطف بعدها ثمار نجاحها. ولكن التاريخ يخبرنا بأن الثورات غالبا ما تكون سلسلة طويلة من الكر والفر الذى يسقط الكثير من الضحايا ويسبب خسائر قد تكون فادحة على المديين القصير والمتوسط. فالثورة الفرنسية، على سبيل المثال، دامت قرابة العشر سنوات وسقط فيها مئات الآلاف من الفرنسيين، ولم ترسخ الديمقراطية أقدامها فى فرنسا إلا بعد نحو ثمانين عاما من الثورة. أظهر قصر نفس بعض المصريين أنهم لم يستعدوا لكلفة التغيير الثورى. طبعا لا يعنى هذا أن كل الثورات يجب أن تدوم لسنوات طويلة، فالثورتان الإيرانية والإثيوبية فى سبعينيات القرن الماضى لم تدم أحداثهما عقدا كاملا. بالإضافة إلى ذلك، فالمصريون اليوم لا يبدأون من النقطة التى بدأ منها الفرنسيون فى 1789، ولا تتشابه الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية فى مصر والمنطقة والعالم اليوم مع ما كانت عليه فى سبعينيات القرن العشرين. ولكن مهما كانت الاختلافات، تبقى الحقيقة الثابتة هى أن للتغيير الثورى ثمنا كبيرا وقد يكون فادحا يجب على الشعب أن يستعد له. أنصار الثورات يدعون أن ثمار التغيير الثورى تعوض سريعا ما تم خسارته، ولكن يبقى السؤال الذى يجب أن يفكر فيه الشعب: هل الشعب مستعد لدفع ثمن قد يكون كبيرا للحصول على حريته وكرامته، أم يفضل تغييرا بطيئا قد يحقق له فى مائة عام ما قد يحققه التغيير الثورى فى عقد واحد من الزمن بعد نجاح التغيير؟ ثانيا: كشف التاريخ منذ عام 1952 أن المصريين لم يحسموا أمرهم بشأن مشروعية الحكم الأوتوقراطى الفردى، فعندما يرفع بعض المصريين صور ديكتاتور سابق لإسقاط ديكتاتور حالى، يكون قد وقع فى تناقض مضحك مبكى يشير بوضوح إلى ضعف خطير فى ثقافته السياسية التى تجعله غير قادر على رفض الحكم الأوتوقراطى، من حيث المبدأ بغض النظر عن رأيهم فى شخص الحاكم وسياساته. الحكم الأتوقراطى مهما كان صالحا فإنه يحمل فى طياته بذور الفساد الشامل المدعوم بسلطة الدولة البوليسية، وهو ما أوصل مصر اليوم إلى ما هى عليه. ثالثا: تعاطف قطاعات من الشعب المصرى مع الرئيس مبارك بعيد خطابه فى منتصف ليلة الثانى من فبراير تشير بوضوح إلى عدم قدرة هذه القطاعات على النظر إليه على أنه موظف عام يخدم الشعب وليس أبا للشعب. سلطة الحاكم فى الديمقراطيات الحديثة تنبع من احترامه للقانون وخدمته لمصالح الشعب وليس على أساس أبوته للشعب ووصايته عليه. فرد الفعل العاطفى الذى تجاهل ضحايا النظام المصرى على مدار عشرات السنوات ورسخ دعائم الدولة البوليسية فى مصر «وهو ما رآه المصريون بأم أعينهم فى الأحداث» تنم عن ذاكرة ضعيفة وغياب آخر للمبدأ. اليوم، أى تنازلات عن مطالب الثوار، الذين لهم الحق وحدهم فى ضبط وتيرة الثورة، لا تعنى إلا خيانة صريحة لدماء الشهداء الذين سقطوا وإهدارا سريعا لكل المكتسبات المرجوة من الحركة الثورية. إذا أقدم الشعب المصرى على هذه الخيانة، يكون قد اقترف جرما غير مسبوق فى تاريخ الشعوب. يصدق هذا أيضا على أى إحساس بالندم على الاشتراك فى الثورة ومساندتها بأى طريقة، ومن الحتمى أن ندرك أن دولة الرئيس الأب لا تقل خطرا عن دولة الرئيس الفرد. رابعا: هجوم قطاعات من الشعب المصرى على بعض القنوات الفضائية يدل على عدم قدرة هذه القطاعات على مواجهة حقائق معينة. لا أقول إن كل ما تبثه تلك القنوات صحيحا، ولكن الثابت هو أن أى ديمقراطية حقيقية تقتضى القدرة على مواجهة كل الأفكار بما فيها الأفكار التى ترتبط بأجندات معينة «والواقع أن أغلب وسائل الإعلام فى العالم ترتبط بأجندة أو بأخرى». مهما اختلف على علاقة تلك الفضائيات بأجندات خارجية، يجب أن يكون المبدأ هو أن الموافقة على إغلاق أى منها لا يختلف بأى شكل عن قطع نظام استبدادى لخدمات التليفون والإنترنت. خامسا: كشفت الأزمة عن خلل رهيب فى الخطاب الدينى، فأغلب رجال الدين الإسلامى الذين لم يتصرفوا كالشياطين الخرس، ساندوا النظام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. أحد هؤلاء ظهر فى إحدى الفضائيات يسوق أحاديث عامة وغامضة فى تحريم الخروج على الحاكم ويفسرها تفسيرا قسريا يهز له المذيع والمذيعة رأسيهما الفارغين كأن الحديث واضح لا غموض فيه. فى نفس الوقت، أصدر اتحاد علماء المسلمين فتوى تنص على شهادة من سقطوا فى الأحداث. وما يجب أن نواجهه بصراحة بعد مرور الأزمة هو موقف واضح وصريح من رجال الدين ومرجعياتهم الدينية. سادسا: دعوة الكنيسة الأرثوذكسية لأبناء الشعب القبطى بعدم مساندة الثورة هو تكريس خطير للطائفية فى مصر، لا يجب على الأقباط أن يسمحوا له بأن يمر مرور الكرام. لقد أكد الكثيرون فى السابق أن الشعب المصرى بكامله له قضية واحدة يجب أن يتعامل معها الجميع ويستفيد منها الجميع. اليوم، تفرق الكنيسة القبطية بين القضية القبطية والوطنية، وهو موقف يجب أن يتبرأ منه كل مصرى قبطى شريف. سابعا: محاولة الكثير من مثقفى مصر التحذير من وثوب قوى سياسية مصرية على الحكم مؤشر واضح على استسلام تلك النخبة للخطاب الإقصائى لنظام مبارك، وأخشى ما أخشاه على هذه الثورة أن يكون كبش فدائها أى فكر أو فصيل سياسى من الذين عارضوا نظام مبارك ودفعوا ثمنا حقيقيا لذلك. ينبغى علينا أن ندرك أن الوصول للحكم ليس سبة تدعو للخجل، بل هو حق مشروع بل واجب على كل من يرى فى نفسه القدرة على خدمة الوطن من موقع القيادة. وأخيرا الشعب المصرى مقبل على مرحلة من التعددية السياسية التى يتنافس فيها لاعبون سياسيون للفوز بصوت المواطن المصرى تماما كما يتنافس أصحاب السلع على المستهلك. فهل الشعب المصرى قادر على تحمل أعباء الحرية والممارسة الديمقراطية التى تلتزم بالاختيار من أكثر من بضاعة يسعى أصحابها إلى إقناعه أنها الأفضل له؟ ثانيا: هل النخبة المصرية على اختلاف توجهاتها قادرة على القبول بنتائج الاحتكام للشعب مهما كانت، أم ستتحول إلى نخبة تفرض وصايتها على الشعب وتستبدل الدولة البوليسية بأخرى أيديولوجية شمولية فنكون كمن استجار من الرمضاء بالنار؟