لا يوجد مكان معين للتدريب ولكن على كل لاعب أن يجد لنفسه مكانا سواء على «المانيج» أى الحلبة نفسها أو فى الفناء الخلفى للخيمة أو فى غرفة من الغرف أو أى مكان آخر. أشرف الجريسى الساحر بما أنه لا يجد مكانا للتدريب مثل باقى اللاعبين قرر أن يتدرب «فى الشارع»، وهو يقصد بذلك أى طرقة أو ممر أو مساحة خالية. يضع صندوقه الخشبى وينظم خناجره وسيوفه ليتدرب مرة أخيرة تحضيرا لعرض السيرك الأخير قبل إغلاقه لأجل غير مسمى بهدف التطوير ابتداء من أول مايو الحالى، يقول: «المفروض أن أتدرب فى مكان هادئ بعيدا عن العيون لأن فقرتى تعتمد على التركيز وأى خطأ فيها يكون قاتلا، ولكن ما باليد حيلة فليس لدينا اختيارات ونعمل بأقل الإمكانات وفى أصعب الظروف». أشرف الجريسى يبلغ من العمر 44 عاما ولم يستطع أن يحتفظ خلالها بشىء سوى فقرته فى السيرك التى أدمنها. يبهر الآخرين بمهاراته فى السحر ولكنه لم يستطع الاستفادة من هذا السحر فى تغيير واقعه أو إنقاذ مستقبله، خاصة بعد أن انهارت حياته العائلية وابتعدت عنه زوجته وابنه بسبب دخله الضئيل. وقد تركهم يبتعدون ولكنه لم يستطع أن يترك السيرك: «أنا عشت هنا وسوف أموت هنا». يعمل أشرف فى السيرك منذ ثلاثين عاما بعقد مقابل أجر شهرى لا يتعدى 350 جنيها. وقد جاءته أكثر من مرة على مدى عمله فرص للتعيين لكن دائما كانت هذه الفرص تذهب لآخرين ممن لديهم صلة بمراكز القوى فى السيرك. يعتمد أشرف فى عمله على التركيز وسرعة الحركة مع استخدام أدوات وأجهزة تعتبر بسيطة للغاية، حيث يوفرها من ماله الخاص، مرددا: «الشاطرة تغزل برجل حمار». وعلى ما يبدو، فالجميع هنا يعملون وفقا لهذا المثل ومع ذلك ينجحون فى جذب الجمهور. فى الفناء الخلفى، حيث أقفاص الحيوانات، صوت الزئير لا ينقطع، وهو يمتزج أحيانا بالعواء أو الفحيح وكأن الكل يعلن اعتراضه على ظروف العمل، الطعام لا يكفى لأن الميزانية المخصصة لذلك والبنود محدودة للغاية ولا تتعدى الميزانية ألفى جنيه يوميا، فى حين يحتاج السيرك إلى لحوم للأسود فقط تصل تكلفتها إلى ستة آلاف جنيه. يقف أحمد كمال بهيئته القوية ونظراته الحادة التى تجعله أشبه بالأسود، يستعد لفقرته: بانتومايم بمصاحبة الكلاب لمدة خمس دقائق. أحمد يشغل حاليا منصب مدير السيرك الخارجى وقد تنقل خلال أكثر من ثلاثين عاما ما بين الأكروبات الضاحكة والمشى على الحبل وفقرة اللعب مع الثعابين. أول ما يفعله أحمد عند الظهور على الحلبة هو إلقاء نظرة سريعة وفاحصة على الجمهور لتقدير إيراد اليوم، وكأن هذه الأموال سوف تذهب إليه شخصيا: « الجميع هنا يصاب بالقلق عند الشعور بأن هناك ليلة قل فيها الإيراد، نبحث عن الأسباب ونطور من أنفسنا، وبرغم الأحوال المتردية داخل السيرك فإنه يمثل كل شىء بالنسبة لنا، لو تركناه فسنموت». انبهر أحمد كمال بعالم السيرك منذ أن كان طفلا يحضر العروض ثم يحاول تقليدها. قرر أن يلتحق بمدرسة السيرك، وكان ضمن آخر دفعة تخرجت قبل إغلاقها فى 1983. هذه المدرسة التى كانت تقوم بإعداد وتأهيل من سوف يلتحق بالعمل فى السيرك وكان مقرها خلف قصر عابدين انتهى دورها الفعلى بعد حريق السيرك الشهير عام 1975، وتحولت لمركز للتدريب حتى تم إغلاقها نهائيا كما يؤكد محمد أبو ليلة لاعب الأكروبات القديم وحاليا رئيس شعبة القاهرة بالسيرك القومى. لا يخفى أبو ليلة على محدثه تأثير سنين عمله بالسيرك من شلل طفيف بذراعه اليسرى وانزلاق غضروفى وآثار غرز فى أماكن متفرقة من جسده، يتذكر بحسرة بدايات السيرك عندما كان التدريب على أعلى مستوى وكان السيرك القومى ينافس السيرك العالمى ومزارا للرؤساء والعظماء. تدرب أبو ليلة على أيدى مدربين روس لمدة أربع سنوات وكان من الطبيعى أن تسافر بعثات من السيرك للتدريب فى ألمانيا أو روسيا أو الصين. «كان اللاعب يتمرن لمدة أربع سنوات على فقرة لن يقدمها على الحلبة سوى دقائق قليلة، أما الآن فعلى أفضل تقدير يتم التدريب ثلاثة أشهر على الفقرة. هذا التدريب يتم بشكل عشوائى على أيدى اللاعبين الكبار وبأقل الإمكانات»، يشرح أبو ليلة أنه رغم الصعوبات فإن السيرك يعد من أكثر قطاعات وزارة الثقافة نجاحا وإدرارا للأموال، إذ إن إيراده اليومى لا يقل عن 20 ألف جنيه فى الأيام العادية و80 ألفا فى الأعياد. تكاتف وقت الشدة الللافت للنظر عند الاقتراب من هذا العالم هو التضامن فى وقت الشدة، فالجميع معرضون للخطر فى أى وقت ولا ملاذ لهم سوى بعضهم البعض. فالسيرك الذى اعتمد فى بداياته على أفراد من نفس العائلة لا يزال قائما على العلاقات الأسرية لكن بشكل مختلف كما يشرح أحمد كمال: «اللاعبون يأتون بأولادهم ليس لأنهم موهوبون أو من أجل الارتقاء بالمهنة ولكن لأن كل طفل يأتى للعمل مقابل عدة جنيهات وإن كانت قليلة لكنها تمثل دخلا إضافيا للاعب، خاصة أنه أتى بعدة أبناء أو أقارب»، الكل يجرى خلف أكل العيش ويراقب الأحداث من حوله بترقب. بنظرة معمقة على كواليس السيرك نجد أن الفقر هو السمة الأساسية للمكان، ويلاحظ ذلك من حالة المبانى المتردية التى تظهر من البوابة الحديدية الخارجية التى لا تليق بالصرح الثقافى والفنى. تستقبل الجمهور عدة لمبات متصلة بسلك بدائى لم تعد تستخدم حتى فى الأفراح الشعبية، وهى متسخة وموضوعة بعشوائية. وفى الداخل لا يختلف الوضع كثيرا، حيث يظهر الفقر واضحا على ملابس اللاعبين وأدواتهم وحيواناتهم وأماكن تدريبهم غير الآمنة بالمرة... فالتدريب يتم على البلاط المغطى بقماش أو نشارة خشب ولا توجد أى ضمانات أمان. يعلق الجريسى وهو أحد قادة الإضرابات قائلا: « لا توجد سيارة إسعاف أو مطافئ فى حال وقوع حادث وليس لدينا تأمين ضد الحوادث، فقط ألف جنيه تصرف مرة واحدة فى حالة العجز الكامل». أما ما يحدث فى حال وقوع حادث فهو تكاتف بعض الزملاء لنقل المصاب إلى أقرب مستشفى يتبع التأمين الصحى والذى غالبا ما يقدم علاجا ورعاية غاية فى التواضع. يتبرع أعضاء السيرك كل بما يستطيع لعلاج زميلهم أو مساعدة أسرته، فالأمور تسير بعشوائية وتعتمد على الجهود الذاتية، كما يشير الجريسى: «محمد الحلو ودخلى أمين وغيرهما من العظماء ماتوا هنا ولم يتم إنقاذهم، وسوف يموت آخرون من فرط الإهمال ما لم يتم تغيير الأوضاع». خصخصة.. إغلاق.. تجديد حالة من القلق والترقب تخيم على المكان بعد أحداث التوتر الأخيرة التى لم يشهد مثلها السيرك القومى من قبل. ثار أهله للمرة الأولى وهددوا باعتصام وإضراب بعد ما تردد من شائعات مفادها أن وزير الثقافة يفكر فى الموافقة على عرض تقدمت به فاتن الحلو مدربة الحيوانات التى أسست سيركا خاصا بها منذ سنوات، حيث تحاول وفقا لما يشاع الحصول على حق انتفاع لمدة عشرين عاما. وبالرغم من تأكيدات شريف عبدالطيف الرئيس الجديد للبيت الفنى للفنون الشعبية والذى يعتبر السيرك أحد فروعه أن هذه مجرد شائعات لا محل لها من الصحة، ونفى فاتن الحلو نفسها للأمر، فإن العاملين بالسيرك يصرون على أن هناك مؤامرة تحاك لخصخصة السيرك. ويضيفون أنهم حصلوا على صورة من المذكرة التى تقدمت بها فاتن الحلو للوزير بغرض الحصول على حق امتياز إدارة وتشغيل السيرك القومى للعجوزة. ( تنشر الشروق نسخة من هذه المذكرة). ثم يحكى الزملاء واحدا تلو الآخر تجربتهم مع فاتن الحلو التى تستأجر السيرك لمدة شهرين سنويا بإيجار 12000 جنيه شهريا وتجنى الملايين على حد قولهم «هذه الإيرادات لا تذهب للدولة ولكن لجيبها الخاص». 170 شخصا يعملون فى السيرك القومى منهم من هو معين ومن يعمل بعقد أو يعمل مقابل أجر، لا يزيد أجر الذين يعملون منذ السبعينيات على 900 جنيه شاملة الحوافز، فدخولهم لم تزد منذ عشر سنوات. يحاول الجريسى أن يكون لسان حالهم: «نحن لا نستطيع العيش بأجورنا الحالية، ولكن أيضا لا نرغب فى خصخصة المكان، وسنواصل السير فى الشوارع إلى أن تسمع أصواتنا. عند الخصخصة لن يختلف مصيرنا عن مصير العمال فى الصناعات الأخرى الذين وجدوا أنفسهم فى الشارع دون سابق إنذار». فى الواقع هذا ليس السبب الوحيد لثورة العاملين، فهناك كابوس آخر يعيشونه بعد أن أصبحت رائحة الحيوانات الكريهة هى الهم الذى يؤرق أعضاء المجلس الشعبى المحلى لمحافظة الجيزة والذين اكتشفوا فجأة أن منطقة العجوزة تحتاج إلى حدائق عامة وأن السيرك القومى هو أكبر «ملوث» للبيئة! «مجرد حجج، فالمحافظة تطمع فى قيمة أرض السيرك الذى تبلغ مساحته 10 آلاف متر مربع، وقد وصل سعر المتر فى المنطقة إلى 50 ألف جنيه، وبالطبع لا يعقل أن تحول المحافظة الأرض إلى حديقة عامة». ذلك هو ما يتردد فى الكواليس، ورغم تعليق الاعتصام لإعطاء المسئولين فرصة لتحسين الأوضاع فإن أوقات التدريب والعروض لم تتغير حتى يوم الخميس 30 أبريل الماضى. «فالجمهور لا ذنب له» كما يقول أهل السيرك الذين ظلوا لسنوات طويلة ينحون مشكلاتهم جانبا ليأخذ كل منهم مكانه على الحلبة راسما ابتسامة عريضة على وجهه. وتعليقا على خبر الإغلاق يقول أحمد كمال: «أغلق أيضا من قبل مسرح البالون تحت اسم التطوير، على أى حال سنمهلهم حتى شهر يوليو القادم للوفاء بالوعود وتحسين الأوضاع.. فقد اخترنا طريقنا».