هناك فى سيوة ذلك المكان الشديد التميز والخصوصية قضيت يومين فى صحبة الرفاق. أتطلع حولى مبهورة بكل ماتقع عليه عينى .. أهذا المكان الساحر داخل حدود بلدى مصر .. أشعر وكأننى داخل لوحة من الطبيعة النادرة، تتراقص فيها الكثبان الرملية المتشكلة والمصفرة بأنغام الصحراء كلما داعبتها الرياح، وتمتد على مرمى البصر حدائق النخيل والزيتون، وتتلألأ فى قلبها البحيرات الصافية المتنوعة الملوحة، تعكس صفحتها الرائقة ذهب الأصيل فى النهار ووجه القمر فى الليل، وتتفجر عيونا وآبارا عذبة الماء هنيئاً للشاربين. وتجمع اللوحة الخلابة إلى جانب ذلك كله مجموعة من الآثار ومساكن البدو تطفو على صفحة الصحراء الشاسعة، وتتخلل البساط الأخضر الخصب لتضفى جمالاً رائعاً من صنع البشر على محيط جلال وجمال من صنع الخالق المبدع.. وأرى الطبيعة هنا وقد برعت فى التوفيق بين المتناقضات الحادة .. فعيون المياه تتفجر رغم الجفاف .. والخضرة تخرج من الصحراء .. والظل يتخلل القيظ .. والبساطة تفرض وجودها رغم شموخ الجبال. أتطلع إلى ذلك كله وأتذكر الصيف الماضى عندما زيّن لى بعض الأصدقاء أن أتخطى الحدود فى رحلة طيران طويلة إلى ذلك المنتجع الأوروبى الشهير فى مدينة كارلو فيفارى الجميلة ..قالوا: ستجدين هناك الراحة والعلاج من كل ما تعانين وتعودين خالية من كل الأوجاع .. نجحت محاولة إغوائى بالسفر وما كنت أحسب أن هنا فى مصر وعلى بعد008 كيلو متر فقط يوجد ما يفوقها جمالاً ومتعة وإفادة. لا تحمل البلدة الصغيرة (كارلو فيفارى) فى جمهورية التشيك أى آثار للثراء أو الفخامة، وليس بها ما يبهر العين ويتحداها سوى المناظر الطبيعية الخلابة، لكنها تمنح السكينة والراحة لمن يذهب إليها كمنتجع سياحى وعلاجى فى آن واحد. مجرد عيون مياه معدنية هى ما تميز المكان فقط، أعطوا لكل منها رقماً ومكاناً فسيحاً ووصفوها علاجاً لأمراض بعينها أو تنشيطاً لأحد أجهزة الجسم كالكبد والكلى والمفاصل.. احتفاؤهم بعيون المياه الطبيعية يمثل قدر أهميتها لهذا المكان، الذى يعيش عليها ويرتزق من ورائها، ثم ابتكروا حولها أساليب أخرى ووسائل للراحة والعلاج يمكن أن توجد فى أى مكان آخر من العالم تتم فى غرفة مغلقة، ويقوم بها إخصائيون مدربون. أتساءل: أين نحن من خريطة السياحة العلاجية العالمية ؟! ولماذا نحن بعيدون عنها رغم تنوع وغزارة إمكانياتنا السياحية الفرعونية والإسلامية والمسيحية والطبيعية والمناخية والمتمثلة فى دفء الشتاء وسطوع الشمس طوال العام، ورغم أن البنية التحتية لإمكانياتنا الطبية التكنولوجية متقدمة ولدينا أطباء متميزون وعلى مستوى علمى رفيع، ولدينا أيضاً قدرة فندقية يمكنها أن تستوعب القادمين بسهولة، بالإضافة إلى وفرة مناطقنا التى تصلح للسياحة العلاجية، والدليل هذه الواحة الجميلة التى ذاع صيتها كمركز علاجى بين السياح العرب والأجانب على حد سواء. لقدرة عيونها المائية على علاج بعض الأمراض مثل الصدفية والأمراض الروماتيزمية وأمراض الجهاز الهضمى. ومن أشهر تلك العيون وأهمها (بئر كيغار) التى تبلغ درجة حرارة مياهها 76 درجة مئوية، وقد ثبت عند تحليل مياه هذا البئر احتواء الماء على العديد من العناصر الكبريتية والمعدنية كتلك الموجودة فى العيون المعدنية بمنطقة كارلو فيفارى التشيكية الشهيرة التى يقصدها السائحون من شتى بقاع الأرض كمنتجع للعلاج الطبيعى. وأنظر إلى ما ينتشر فى العالم الآن من منتجعات علاجية أجد أن واحة سيوة بما تتميز به تعتبر مكاناً فريداً من نوعه، حيث الرمال الساخنة التى يمكن استخدامها فى العلاج، ولكن بأساليب متطورة عن طريق توفير بنية أساسية تساعد على الترويج عالميا لهذا المكان وكذلك توفير الكفاءات المطلوبة للقيام بهذا النوع من العلاج وبطريقة علمية فهى بشهادة المتخصصين عالميا فى هذا النوع من العلاج تعتبر المكان الأمثل فى العالم كله.. ماذا حدث للطفلة الجميلة ؟ منذ ما يقرب من الأربعين عاما وبالتحديد فى عام 7791 زار الواحة سائح دنماركى الجنسية ومعه ابنته الطفلة الصغيرة كانت آية فى الجمال عمرها لم يزد على تسع سنوات يدفعها أمامه بكرسى متحرك، نصحه طبيب ألمانى فى بلده بأن يذهب إلى واحة سيوة حيث المناخ المناسب لمثل هذه الحالات .. وقابل هذا السائح الدنماركى العم سطوحى وهو كبير المعالجين هنا فى الواحة هكذا يروى محدثى الحاج مهدى أحد القائمين بالطب الشعبى : علمت أن الفتاة كانت مريضة وغير قادرة على السير وأن والدها طاف بها العالم بحثا عن علاج لها دون جدوى .. فأشار عليه سطوحى بأن يجرب عملية الردم فى رمال جبل الدكرور الساخنة، واستجاب الأب المتلهف لشفاء ابنته للتجربة الصعبة، حيث أخبره أن حالة ابنته تستدعى تسعة أيام وافق الرجل وتمت العملية بنجاح غير مسبوق، حيث بدأت الطفلة الجميلة فى التحسن يوما بعد يوم يساعدها والدها فى الأيام الأولى، وفى اليوم الأخير لم تطلب مساعدة وقامت بنفسها وتحركت ومشت الهوينى ثم تقدمت حتى أصبحت عادية مثلها مثل أى فتاة فى عمرها معافاة تماما 00 ذاع خبر شفاء هذه الفتاة وارتفعت أسهم الدكتور وأصبحت المهنة تمارس بشىء من الثقة 00 وللعلم هذا المعالج يقدم كل معرفته وثقافته العلاجية بكل حب ولا ينتظر مقابلا، وسلم الراية لابن أخيه من بعده وعندما سألته عن رأى الطب الرسمى فى هذه المهنة قال إنه يؤيدها على استحياء بمعنى أنه معترف بها، ولكن لا يعلن عن ذلك، والدليل قدوم أساتذة كبار فى طب العظام ليعالجوا أنفسهم بهذه الطريقة البدائية كما يحلو للبعض أن يطلق عليها. يبدأ البرنامج العلاجى باستضافة المريض فى مكان أعده المعالج للمرضى يبيت المريض الليلة الأولى، وفى الصباح الباكر عند بزوغ الشمس يحفر المساعدون حفرة للمريض، تبدأ الشمس مسلطة على تلك الحفرة من بزوغها إلى الساعة الثانية والنصف ظهرا ثم يأتون بالمريض ويضعونه بالحفرة على قدر تحمله، مدة لا تقل عن «01 دقائق» ولا تزيد على «51 دقيقة» بعدها ينقل إلى خيمة مغلقة لمدة لا تقل عن ساعتين ولا تزيد على ثلاث ساعات، فى هذه الأثناء لا يتعرض المريض للهواء ولا يشرب ماء باردا ولا يأكل إلا ما أمر به المعالج ويداوم أحد المساعدين فى تقديم أكواب الحلبة الدافئة حتى يخرج المريض من خيمته ملفوفا فى غطاء ثقيل (بطانية أو اثنتين) حتى يصل إلى غرفة مغلقة ليرتاح فيها بقية اليوم وقد يحتاج إلى تدليك بالخل وزيت الزيتون الدافئ لأن المريض عندما يدخل حفرة الردم تكون مسام جسمه مفتوحة، بعد خروجه من الخيمة يعطونه ماء ليمون بنزهير وحلبة دافئة وقليلا من الشوربة ثم يتناول وجبة العشاء أو قل الغذاء المتأخر ويحرم على المريض أثناء مدة الردم شرب أى شىء بارد والتعرض للتيارات الهوائية وعدم الاستحمام طيلة مدة العلاج وبعدها لمدة 02 يوما، ويوصى بعدم تخفيف الملابس حتى تتحسن حالة المريض، ويفضل عدم مغادرة واحة سيوة مباشرة بعد الردم والمكوث فيها مدة لا تقل عن ثلاثة أيام .. وقبل هذا كله ألا يكون الراغب فى العلاج مريضا بالقلب أو الضغط أو السكر. وعن الموعد الأمثل لعملية الردم والتى تعطى نتائج طيبة قالوا إن المدة من منتصف يونية حتى منتصف أغسطس حيث الشمس أقوى ونتائج العلاج بالردم تظهر بسرعة أفضل من الأوقات الأخرى، والمرضى الذين يطلبون هذا النوع من العلاج غالبا هم مرضى الروماتويد والروماتيزم وآلام المفاصل وآلام الظهر والمرضى بالنقرس ومرضى السمنة والمصابين بنزلات البرد الشديدة والمتكررة .. وقد اكتشف المعالجون عن طريق المصادفة أن المرضى عندما يعودون إلى ديارهم يبلغونهم بأن أحوالهم أصبحت أفضل وشفاهم الله من أمراض كانوا غير متوقعين الشفاء منها.. وأكد هؤلاء المرضى أنهم يداومون على العلاج.. وقال أحدهم إنه قدم طلبا للنقل من القاهرة إلى سيوة للاستمتاع بجوها وأضاف إنه كان يمشى وهو يجر رجليه جرا بعد فترة من إقامته أصبح يهرول هرولة، هذا على حسب تعبيره .. ولدينا سيدات يقمن بعمليات الردم للسيدات مثيلاتهن .. أما عن ترخيص مزاولة المهنة فلا يوجد سوى موافقة من مجلس المدينة فقط، وهى لا علاقة لها بالعملية العلاجية والحق أنه لا أحد يمنعنا ولا أحد يساعدنا فى إشهار هذه العملية العلاجية الصحراوية السياحية. الحالات التى عولجت بحمامات الرمال كثيرة لاتحصى، يرددها السيويون أمام الزوار ولا يملون من تكرارها، بل إن هذه الرمال الساخنة بجبل الدكرور قد نجحت فى علاج أمراض أخرى بالإضافة إلى شكواهم الأصلية .. مثال ذلك مريض ذهب للتخسيس والتخلص من السمنة شفى بإذن الله من مرض البروستاتا، وآخر كان يشكو من ألم فى ظهره بعد الردم عادت إليه قدرته الجنسية التى كان قد افتقدها ولم يجد حرجا فى ذكر ذلك. يؤكد لى الحاج مهدى أن عملية العلاج بالردم هذه تتم بعشوائية غير مقننة ولم نحصل على أية دراسات تؤكد أهميتها، وكذا لم نحصل على ما يفيد إلغاءها، الناس يتجاوبون معها والكثير من الأجانب يقومون بعمليات الردم والكثير من مثقفينا يعالجون بالردم .. وهناك سائح ألمانى جاء إلى هنا وهو يتكئ على عكاز وعاد منها بعد أن تخلص من ذلك العكاز وهو يسير على قدميه، والغريب أن الألمان هم الذين يسوقون لهذه العملية العلاجية وهم أكثر المترددين من الأجانب يليهم الفرنسيون ومنهم من أصبح شبه مستقر بواحة سيوة! ذكرنا أن الألمان هم الأكثر إيمانا وتصديقا لهذه الممارسات العلاجية وهم أيضاً الأكثر استجابة لها ومعاودة الزيارة وتكرارها مرات ومرات يليهم الفرنسيون ثم الطليان ومن العرب الليبيون فى المقام الأول يليهم دول مجلس التعاون الخليجى .. ويأتى الليبيون أحيانا على شكل قوافل وأحيانا أسر بكاملها ويقيمون فى سيوة مدة أطول من غيرهم ومن مصر الأكثر من طبقة المثقفين من مختلف المحافظات، وهناك من اشترى أرضاً ليعود إليها مرات ومرات وغيره اشترى سكن وثالث طلب نقله من محافظته ليعمل بسيوة . إنهم يبيعون الرمال!! لكن الطريف حقاً هو ما يرويه الشيخ محمد الذى يعمل فى تجارة الأعشاب من أنه شاهد بأم عينيه فى الموسم الماضى من يبيع رمال البحر بعد أن غلفه بشكل جيد ليبيعها للمصطافين بمبلغ 3 جنيهات شارحا إنها تبيض الأسنان وتجعلها أكثر لمعانا، والمثير أن الكميات كانت تنفد بسرعة وبحسبة بسيطة نجد أن ذلك الكيس به تقريبا ربع كيلو رمل أى أن الكيلو الواحد بمبلغ 21 جنيها وهكذا أصبحت الرمال أغلى من الأرز والبقول ومعجون الأسنان ! بئر واحدة وسط الكثبان الرملية وبعد رحلة سفارى ممتعة ترى منطقة بير واحد هكذا يسمونها، فهى مكان عبارة عن حمام سباحة طبيعى تخرج منه مياه تغلى ولها دخان واضح عندما سألت عن هذا المكان قالو إنه حفر بواسطة شركة يبدو أنها كانت تنقب عن البترول، فلما وجدوه ماء أغلقوا فوهته وتركوه هكذا يخرج دخانه بعدها تم استغلال المنطقة كمزار سياحى وعلاجى فى آن واحد وتمت إحاطة تلك الفوهة بسور دائرى على شكل حمام سباحة له درجات ما إن تضع قدمك على أول درجة - فى طريق نزول ذلك الحمام- تشعر بفوران فى قمة رأسك ثم واصل النزول درجة تلو الأخرى تشعر بنشوة غريبة تسرى فى جسدك كله ولا يمكنك مبارحة المكان إلا بصعوبة. الردم وأشياء أخرى!! وهكذا فإلى جانب الردم فى الرمال الساخنة هناك ممارسات علاجية أخرى ورحلات سفارى يمكن أن تقام ليس للسياح الأجانب فقط بل للسياحة الداخلية والعربية، حيث يمكنهم الاستمتاع بهذا المكان العبقرى ولكن للأسف الشديد لم توظف هذه الطبيعة الخلابة وهذا المكان الساحر توظيفا سياحيا بعد، فهى على هامش زيارات الوفود ومنهم من يذهب إلى أماكن الردم للنزهة فقط .. وحتى الآن لم نجد من الدارسين من يغوص فى أعماقه وتاريخه وتركبيته الاجتماعية والثقافية من المصريين والعرب .. أما الغرب فقد سبقونا فى فض غشاء بكارة تلك البقعة التى تعد جنة الله على الأرض واللهم لا اعتراض! وأخيراً إليكم هذه القصة ذات المغزى إنها قصة العالم العربى أبوبكر الرازى الذى عندما رغب فى بناء مشفى وزع قطع من اللحم فى أماكن مختلفة ومر عليها بعد ذلك والقطعة التى تعفنت دلت على تلوث المكان وعدم صلاحيته لإقامة ذلك المشفى حتى وصل إلى قطعة ظلت محتفظة بصلاحيتها عندها حدد هذا المكان وقال إنه الأصلح لإقامة المشفى - وهذا ما يحدث فى واحة سيوة اللحم لا يتعفن فيه بسرعة، وهذا إنما يدل على نقاء المناخ الذى بدوره يساعد فى التعجيل بشفاء المرضى الذين يقصدون هذه الواحة. أنظر إلى كل هذه النعم وأتحسر .. لدينا كل هذه الإمكانات للسياحة العلاجية ونهدرها مثل أشياء كثيرة وهبها لنا الله ولم نعرف كيف نستثمرها ونستفيد منها .. يكفى أن أقول إن بلداً مثل الأردن وهى أقل منا بكثير فى هذا المجال يحقق سنوياً مليارين من الدولارات من دخل العلاج بمستشفياته ومن الاستشفاء فى منتجعاته السياحية، جذب الليبيين والسودانيين واليمنيين وهم الأقرب مكاناً إلينا، السياحة العلاجية مصدر مهم للدخل القومى لو أردنا.. ولكن هل نريد ؟.. عندما نريد، مؤكد سنستطيع !