قام الرئيس الروسى دميترى ميدفيديف فى 18 يناير الجارى بأول زيارة له إلى فلسطين دون المرور بإسرائيل، الأمر الذى جعل الزيارة سابقة هى الأولى من نوعها حيث جرت العادة أن كل شخصية دولية مهمة تزور فلسطين تزور إسرائيل أيضا لتؤكد عدم تحيزها لأى من طرفى النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، إلا أن ميدفيديف «شطب» إسرائيل من برنامج الزيارة، على حد وصف إحدى وكالات الأنباء الروسية. وقد كان لحميمية اللقاء مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وتصريحات ميدفيديف التى أكدت ثبات الموقف الروسى المؤيد لإقامة دولة فلسطينية، بل وتشديده على ضرورة أن تكون القدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، أكبر الأثر فى دعم المحاولات الفلسطينية الجارية لإقامة الدولة الفلسطينية، باعتبار روسيا الراعى الثانى لعملية السلام، وعضو الرباعية الدولية المسئولة عن عملية السلام فى المنطقة. فاستحق ميدفيديف وسام نجمة فلسطين تقديرا للدور الروسى الكبير والمتميز فى دعم الشعب الفلسطينى، من أجل الحرية وإقامة دولته المستقلة. والذى لا يقتصر على الدعم السياسى وإنما يتضمن دعما اقتصاديا أيضا حيث قدمت روسيا مساعدات بلغت قيمتها 30 مليون دولار لفلسطين على ثلاث دفعات قيمة كل منها 10 ملايين دولار فى مايو 2006 وسبتمبر 2008 وأكتوبر 2010. كما قدمت لفلسطين 9839 طنا من الدقيق فى مارس 2010. وعلى حين تتسم العلاقات الروسية الفلسطينية بل والعربية عامة بالاستقرار والتطور المستمر، فإن التأرجح والمد والجزر يظل هو السمة الأساسية للعلاقات الروسية الإسرائيلية. فقد ساد الفتور النسبى والتوتر العلاقات بينهما خلال أزمة أوسيتيا الجنوبية فى أغسطس 2008 نتيجة الدعم العسكرى الذى كانت تقدمه اسرائيل لجورجيا قبل وأثناء الأزمة، وعقب تبنى روسيا قرارا مناهضا لإسرائيل فى مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان فى 16 أكتوبر 2009، إلى جانب التعاون الاستراتيجى القائم بين روسيا وكل من سوريا وإيران والذى يعتبر موطنا دائما للخلاف بين البلدين. إلا إن العامين الماضيين شهدا قفزات مهمة فى العلاقات بين البلدين. ففى ديسمبر 2009 أستأنفت اللجنة الوزارية الاقتصادية الروسية الإسرائيلية المشتركة عملها بعد قطيعة دامت ثلاثة أعوام. وتحتل إسرائيل المرتبة الأولى بين دول الشرق الأوسط من حيث حجم التبادل التجارى مع روسيا، والذى بلغ نحو 3 مليارات دولار فى عام 2008. كما تحتل روسيا المركز الثانى بعد الولاياتالمتحدة من حيث عدد السائحين الذين يزورون إسرائيل خاصة بعد إلغاء نظام تأشيرات السفر بين البلدين فى سبتمبر 2008، ويمثلون أكثر من 10% من إجمالى السائحين لإسرائيل، حيث زار إسرائيل 3.5 مليون سائح فى عام 2008، بينهم 360 ألف سائح روسى. وتتعاون الدولتان على نحو وثيق فى مجال تكنولوجيا النانو، والفضاء والطاقة، حيث تقوم روسيا منذ فترة طويلة بإطلاق صواريخ لصالح إسرائيل. كما تم بحث توريد الغاز الروسى إلى اسرائيل، وإقامة منطقة تجارة حرة بينهما. وفى 6 سبتمبر 2010 تم التوقيع على اتفاقية التعاون العسكرى الاستراتيجى بين وزارتى الدفاع الروسية والإسرائيلية، وتسلمت روسيا 12 طائرة اسرائيلية الصنع بدون طيار، وتم بحث إمكانية تزويدها بأجهزة تقنية فضائية وليزرية روسية. كما بحثت موسكو مع الخبراء الإسرائيليين فكرة إقامة محطة ليزر لقياس المسافات فى اسرائيل تعمل فى إطار منظومة «جلوناس» الفضائية الروسية للإرشاد وتحديد المواقع. وتم أيضا الاتفاق على عدة مشاريع فى المجال العسكرى التقنى وفى مجال النقل العسكرى الجوى. وقد اُعتبر الاتفاق العسكرى السابق الإشارة إليه نقلة نوعية فى العلاقات الروسية الإسرائيلية، إذ عزز التعاون بين البلدين فى مجال مكافحة الارهاب، واللحمة البشرية المتمثلة فى اليهود الروس المهاجرين فى إسرائيل والذين يبلغ عددهم أكثر من مليون نسمة من أصل مجموع السكان البالغ 6.2 مليون نسمة بنسبة 16%، وأصبحوا يسيطرون على العديد من قطاعات الاقتصاد الإسرائيلى، وحصل أربعة منهم على حقائب وزارية بعد أن حل حزب المهاجرين الروس «إسرائيل بيتنا» فى المرتبة الثالثة بين الأحزاب الإسرائيلية التى فازت فى الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية لعام 2009 والذى يتزعمه أفيجدور ليبرمان. فى هذا السياق أثار نبأ اعتذار الرئيس الإسرائيلى عن استقبال الرئيس الروسى ديمترى ميدفيديف واتمام زيارته إلى إسرائيل والتى كان من المقرر لها 17 يناير الجارى فى إطار جولة تشمل أيضا فلسطين والأردن، العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام، باعتباره حدثا غير مسبوق فى العلاقات الدبلوماسية بين الأمم والشعوب، خاصة مع دولة بحجم وثقل روسيا. وبدا السبب المعلن الذى يرجع إلغاء الزيارة إلى أسباب سياسية داخلية فى اسرائيل تتعلق باضراب موظفى وزارة الخارجية الإسرائيلية اعتراضا على رواتبهم المتدنية ومطالبهم بزيادة اجورهم، غير مقنع للكثيرين، خاصة أن ذات الإضراب لم يؤثر على زيارة وزيرة الأمن الداخلى الأمريكية لإسرائيل. وقد يكمن السبب من وجهة نظر البعض فى التناقض الجوهرى بين البلدين حول عدد من القضايا لاسيما توجهات السياسة الروسية فى المنطقة والتى لا تروق كثيرا لإسرائيل. وفى مقدمة ذلك تعزيز التعاون الاستراتيجى فى المجالات التقنية والاقتصادية والعسكرية مع سوريا خاصة بعد زيارة الرئيس ميدفيديف لدمشق فى مايو 2010 والتى كانت الأولى من نوعها فى تاريخ العلاقات بين البلدين، وهو الأمر الذى أثار حفيظة اسرائيل التى طالما اتهمت سوريا بتزويد حزب الله بأسلحة تخل بالتوازن العسكرى وبأمن إسرائيل، وحاولت مرارا عرقلة صفقات الأسلحة الروسية لسوريا، بل ووصل الأمر فى سبتمبر 2010 حد التهديد باستئناف التعاون العسكرى مع جورجيا فى حال تنفيذ صفقة بيع صواريخ «ياخونت» الروسية المضادة للسفن إلى سوريا. كذلك علاقة روسيا بحركة حماس، و الحوار السياسى والزيارات المتكررة التى يقوم بها قادة الحركة للعاصمة موسكو ولقاؤهم مع كبار الساسة الروس، حيث ترفض اسرائيل إجراء اتصالات مع حماس وقدمت احتجاجا رسميا على قيام وفد من قادة حماس برئاسة خالد مشعل رئيس المكتب السياسى للحركة بزيارة لموسكو فى فبراير 2010. إلا أن السبب الأقوى قد يكون مرتبطا بالحكم الذى أصدره القضاء الروسى على الملياردير اليهودى الروسى خودروكوفسكى نهاية شهر ديسمبر بالسجن ست سنوات إضافية ليظل فى سجنه حتى عام 2017، بتهمة الاحتيال وسرقة ملايين الأطنان من النفط وغسل الأموال. الأمر الذى أثار امتعاض اسرائيل وانتقادات شديدة من جانب الولاياتالمتحدة، رغم كون القضية شأناً داخلياً روسيا وتأتى فى إطار توجه الدولة الروسية لمحاربة الفساد الذى استشرى فى عهد الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين، وسيطر فى إطاره عدد من المليارديرات اليهود على مقاليد الاقتصاد والسياسة والاعلام فى روسيا لتعم الفوضى السياسية الاقتصادية البلاد وتتراجع مكانة روسيا الدولية، ويعانى الروس اجتماعياً واقتصادياً، مما اضطر الرئيس بوتين فور توليه السلطة إلى تحجيم نفوذهم، وهى الحملة التى أدت إلى هروب اثنين منهم خارج روسيا فى حين تم القبض على خودوركوفسكى وتقديمه للمحاكمة. وقد أثارت هذه الإجراءات حملة عنيفة من جانب اسرائيل ضد الرئيس بوتين الذى اتهمته بمعاداة السامية، وكان هذا الهجوم أحد الاسباب الرئيسية وراء زيارة بوتين لإسرائيل عام 2005، والتى كانت الأولى من نوعها، ونجحت فى تهدئة الجانب الإسرائيلى، وإعطاء دفعة للعلاقات الروسية الإسرائيلية استمرت لسنوات تالية. رغم التقارب الروسى الإسرائيلى، الذى تفرضه عوامل مصلحية وبراجماتية، فإن التناقضات الجوهرية تظل حاضرة وبقوة فى العلاقات بين البلدين، لتستمر العلاقة بينهما فى حالة مد وحذر مستمرة.