كلما فتح الواحد منا فاه مبديا ملاحظة على حرية التعبير فى مصر الآن نهرنا آخرون قائلين: احمدوا ربكم على ما تتمتعون به من حرية لا تقارن بما خبرتموه فى الماضى. أم أنكم نسيتم ذلك الزمن الذى فرضت فيه الرقابة وقصفت الأقلام وأممت الصحف؟ مثل هذه المقولات شاعت على ألسنة كثيرين، حتى أصبح البعض يرددونها فى كل مناسبة، بحسبانها مرافعة دامغة تحسم الحوار لصالح الوضع القائم، وتحبذ الرضا والحفاوة بما صرنا نرفل فيه من حرية ارتفعت فى ظلها الأصوات المحبوسة وانطلقت الألسنة المعقودة وانفكت عقد الصامتين والخائفين، على حد قولهم . الطريف فى الأمر أن هذا الكلام حين يقال الآن فإنه يصدر فى لحظة يكذب فيها الواقع جوهر المرافعة المذكورة، حيث يكفى أن يطالع المرء صحف الصباح لكى يقرأ بعينيه أخبار الضيق المتزايد بحرية التعبير، متمثلة فى إجراءات القمع والتقييد والإنذارات التى باتت تنهال كل يوم على رءوس الإعلاميين والملاحقات التى طالت المراسلين الأجانب. رغم ذلك فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن سقف حرية التعبير ارتفع بصورة نسبية فى مصر خلال السنوات العشر الأخيرة بوجه أخص، لكن ثمة أمورا يجب أن توضع فى الاعتبار لكى نرى الصورة فى إطارها الصحيح وحجمها الحقيقى، منها ما يلى : إننا لا نستطيع أن نفصل حرية التعبير عن الحريات العامة فى البلد. ومن الناحية النظرية والمنطقية فإنه لا يطمأن إلى حرية التعبير فى بلد يعيش فى ظل قانون الطوارئ وتصادر فيه الحريات العامة ممثلة فى حرية تشكيل الأحزاب والنقابات وإصدار الصحف ويتعذر فيه إجراء انتخابات نزيهة تحقق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة . حين يفسح المجال لقدر من حرية التعبير فى ظل هذه الظروف فإنه يصبح فى الحقيقة نوعا من ممارسة حرية التنفيس والصياح، ترفع فيه السلطة شعار «قولوا ما تشاءون ونحن نفعل ما نريد». وهو موقف يتسق مع فكرة الالتفاف على الديمقراطية التى شاعت فى بعض دول العالم الثالث، وبمقتضاها تقام هياكل الديمقراطية من أحزاب كرتونية وانتخابات مزورة ومجالس نيابية معوقة ومنظمات وهمية لحقوق الإنسان، فى حين لا يسفر ذلك عن أى مشاركة ولا يحقق أى أمل فى تداول السلطة. وعندما ترتب الأوضاع بحيث تقام هياكل الديمقراطية وتعطل وظيفتها، فإن التسامح مع هامش لحرية الصياح يصبح مفهوما، سواء لإتاحة الفرصة للتنفيس أو لاستكمال متطلبات الديكور الديمقراطى . فى كل الأحوال ينبغى ألا ينسى أن الباب ليس مفتوحا على مصراعيه كما قد يظن، لأن إجراءات التأديب والقمع مازالت تتخذ بحق كل من «يأخذ راحته» فى التعبير. ومعروفة قائمة الصحفيين المصريين الذين تعرضوا للضرب من مجهولين، وأقرانهم الذين فصلوا من وظائفهم أو منعوا من الكتابة فى الصحف القومية، أو الذين قدموا للمحاكمة حيث لايزال سيف الحبس مصلتا على رقاب الجميع. إن السلطة فى مصر فتحت الباب للتنفيس حقا، لكن لا فضل لها فى رفع سقف التعبير وتوسيع هامشه، لأن ذلك مما ينبغى أن يحسب لنفر من الصحفيين والكتاب الشجعان الذين دفعوا بذلك الهامش بعيدا متمسكين بممارسة حقهم فى التعبير عن آرائهم، وأكثرهم دفع ثمن شجاعته تلك، رغم أن السلطة ظلت تخوفهم بنصوص الحبس وإجراءات الملاحقة والقمع. إن التطور المثير الحاصل فى وسائل الاتصال خفف من قبضة السلطة على قنوات التعبير، بعدما أصبحت المدونات والرسائل البريدية والإنترنت مجالا مورست فيها حرية التعبير على نحو ظل من الصعب السيطرة عليه. وكان لذلك العامل دوره الذى اضطر السلطة لأن تسلم بالواقع الجديد بعدما أفلتت الأمور من أيديها. على صعيد آخر، فلست أرى محلا لمقارنة مصر بدول أخرى أتعس حظا منها، لأن المقارنة الصحيحة ينبغى أن تكون بما يجب أن تستحقه مصر وليس بمن هم أصغر منها مقاما أو أتعس حالا. كما أنه ليس من الإنصاف أن نقارن وضع مصر الآن بما كانت عليه قبل أربعين أو خمسين عاما، لأن التحديات الداخلية والخرائط الدولية مختلفة تماما عما أصبحت عليه الآن. ولا مفر من الاعتراف بأنه فى العهد «الشمولى» الذى يغمزون فيه ويحيلون إليه فى المقارنة، لم تدع مصر أنها دولة ديمقراطية لكنها كانت بلدا كبيرا له عزته وكبرياؤه، أما الآن فإنها مازالت دولة غير ديمقراطية وإن ادعت غير ذلك، لكنها صغرت كثيرا وتأثرت حظوظها من العزة والكبرياء منذ «اعتدلت» ودخلت فى تحالف مع الولاياتالمتحدة وفى صلح مع إسرائيل. حين لم يكن يسمع صوت المجتمع فى السابق كانت مصر دولة كبيرة ورائدة ولها مشروعها وصوتها الذى تردد قويا فى فضاء المنطقة، ولاحقا حين ارتفع صوت المجتمع كانت مصر قد صارت دولة أخرى أكثر تواضعا وأقل شأنا. وحين تصبح تلك حالها، فليس بوسع أحد أن يكابر ويعيِّر الغيورين بالذى فات، ورحم الله من قال: «إذا بليتم فاستتروا