ثمة من يرى أن «الصحافة وحرية الفكر» فى مصر تمر فى هذه الأيام بمحنة تذكرنا بمحنة الهولوكست فى أوروبا، فالمحنتان تنطلقان من قاعدة «القمع بدل الحوار» وتضربان فى العمق مبدأ تقره جميع الوثائق الدولية، وهو مبدأ «حق الإنسان فى أن يعرف»، ففى أوروبا وفى عصور سابقة وبإيعاز مغرض من الطوائف اليهودية النافذة كان محرماً على أى صحفى أو كاتب أو صاحب كلمة أو مؤرخ أن يشير تصريحاً أو تلميحاً إلى المزاعم التى تتعلق باستئصال وإبادة اليهود «وما يعرف بأفران الغاز» ومن يتجرأ «أو يتهور لا فرق» على خرق ذلك، فالعقاب بات واجباً. وضمن هذه الهجمة البشعة على حرية الفكر، تحدث البعض عن اتهامات من كل لون وصنف مثل الحث والتحريض على الحقد العنصرى أو المس بذاكرة الأموات، أو نشر معلومات مضللة، وتهييج الرأى العام، وعدم الالتزام بالقواعد واللوائح المقررة فى مسألة النشر. وأقسم أننى شعرت بالدهشة تعقد لسانى عندما وجدت تشابهاً بين ما يحتج به اليوم فى مصر، فيما يتعلق بالكتابة والنشر، وبين ما كان يحتج به فى أوروبا فى هذه المرحلة المظلمة فى تاريخها، ووضعت يدى على قلبى خوفاً على تجربة مصرية فى حرية التعبير والكتابة، كان حرياً بها أن تسجل بأحرف من نور، لولا هذه الهجمة الفكرية التى تتدثر بدعاوى كثيرة ظاهرها الرحمة، لكنها لا تستهدف سوى هذه المناخات الصحية التى تعيشها مصر فى العقد الأخير على أقل تقدير.. وتريد أن تصيبها فى مقتل. فحرية الفكر هى واحدة من الحريات التى تكفلها الدساتير فى الدولة المدنية الحديثة، ولهذا السبب يعتبر البعض أن محنة الهولوكست التى اجتاحت أوروبا تملأ النفوس بالخجل لأنها والحالة هذه أشبه ببقعة سوداء تلطخ الثوب الأوروبى ناصع البياض، والثوب هنا ليس أكثر من عصر التنوير والعقلانية، الذى قاد أوروبا «والعالم»، باتجاه الارتقاء والنهضة. لسنا نتمنى لمصر «المحروسة» أن تتورط فيما يشعرنا ويشعر أحفادنا والأجيال المقبلة بالعار، خصوصاً أن تحريم أو تجريم النشر سيكون والحالة هذه أشبه بباب جهنم.. ولنا فى تاريخ أوروبا القدوة والمثل.. فلقد فرضت السلطات رقابة شديدة على الصحف والمجلات والكتب التى تناقش - ولو من بعيد - قضية «أفران الغاز».. وحدثت صدامات ووقعت ممارسات يحمر لها وجه الكثيرين: فامتلأت السجون بضحايا حرية الفكر. شىء كهذا نخشاه فى مصر ونتوجس من أنه - فى حال حدوثه - سوف يلطخ وجه مصر التى ليس بوسع أحد إنكار بعض الإنجازات التى حدثت فيها إن على صعيد الإصلاح السياسى أو الاقتصادى أو المجتمعى. فأى تجاوزات من نفر هنا وآخر هناك لا تبرر «حالة الإظلام» التى يرى البعض أننا مقبلون عليها حتمًا بل وقطعنا فى طريقها خطوات. وقد يكون مهما أن نشير إلى أن أوروبا الأمس التى ضربنا بها المثل فى تكريس الهولوكست، وفرضه على الناس وكأنه هابط من السماء «أو قدر لا لطف فيه!» هى ذاتها أوروبا اليوم التى كفرت عن ذنبها وأعلنت «مبدأ حق الإنسان فى أن يعرف»، فمثلاً لم تقدم بريطانيا أو فرنسا كاتبًا أو صحفيًا للمحاكمة عندما امتلأت الصحف بالتكهنات من كل حدب وصوب بشأن حادث أميرة ويلز «الأميرة ديانا» الذى وقع فى باريس فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، والذى ذهب فيه البعض إلى اعتبار أن ملكة بريطانيا المقبلة «حامل» من عماد «دودى» ابن الثرى المصرى محمد الفايد.. وهى شائعة لو صحت فى حينها لغيرت وجه بريطانيا العظمى! وهناك مثال صارخ آخر عندما نشرت صحبفة فرانس سوار الفرنسية الشهيرة تحقيقًا مصورًا «عن الابنة غير الشرعية وتدعى مازارين» للرئيس الفرنسى الأسبق فرنسوا ميتران مع صور - مأخوذة خلسة - لميتران وهو يداعب خصلات شعر ابنته الصغيرة وفى حضور أمها، وتطرقت الصحف والأقلام فى ذلك الوقت إلى زيارات ميتران السرية إلى مصر وعشقه أن يمضى «إجازة النويل ورأس السنة فى أحضان مدينة أسوان وأحضان أسرته غير الشرعية أيضًا» ويذكر الجميع أن الرئيس ميتران - وإن كان قد انزعج قليلاً إلا أنه لم يصادر جريدة، ولم يحجر على كاتب ولم يقصف قلمًا وعندما سئل أجاب فى شىء من فلسفة عرفت عنه: إن من حق الناس أن تعرف! اللافت للنظر أن ميتران قال ذلك بينما كانت قضية بنوته لابنته منظورة أمام المحاكم. مرة أخرى إن أخشى ما نخشاه أن تنزلق مصر فى «جب» سحيق يشبه جب الهولوكست الذى - فى حال حدوثه - سيقضى على الأخضر واليابس فى مصر التى كنا - ومازلنا - نراها «عروسًا» تزهو بما تحقق فيها «فكرًا واقتصادًا.. وسياسة»