المشهد يبدو منذ الوهلة الأولى كعرس جماعي تحلق فيه جماعات الحمام الزاجل فوق سطح أحد المنازل القديمة بحي حلمية الزيتون. هنا ترتفع أبراج حمام عائلة العباسي أو لفت " ال loft " كما يطلق عليها هواة الزاجل. بدأ "عمر" الصغير يطلق طيوره لتدور حول المكان بينما حلقت أحلامه معها، فحصوله على مراكز متقدمة فى سباقات الحمام الزاجل مازالت تراود خياله على الرغم من توقف هذه المناسبات بسبب انتشار أنفلونزا الطيور منذ حوالي عامين . و رغم حداثة عمر إلا أنه ملما بأسرار عالم الزاجل: سلالاته الجيدة، طرق تغذيته، أنواعه و مواسم تزاوجه، فهو ينتمى لأسرة تمرست على تربية الحمام الزاجل منذ أربعة أجيال بدأها الجد الأكبر منذ ثلاثينات القرن الماضى. طيور عمر-الذى لا يتجوز عمره العاشرة- قد وصلت إلى المراكز الأولى فى آخر منافسات عقدت بمصر منذ عامين فى سباق النقطة الواحدة، حيث قطعت الطيور مسافة أكثر من 200 كم فى أقل من ساعتين من الأسكندرية إلى سفح الهرم . يقضى عمر مع أسرته أكثر من نصف يومه متجولا بين الأبراج الخمسة التى تقف شامخة رغم كل الضغوطات التى تعرضت لها الأسرة من الجيران و المسئولين بعد أزمة أنفلونزا الطيور. هنا يشعر عمر و كأنه فى مملكته الخاصة، هى ارث الأجداد . و عندما يطلق العنان لطيوره يبدو و كأنه "صانع أبطال" أو "مدير فني لفريق من اللاعبين" . فيؤكد اللواء سعد العباسي- جد عمر و أحد المولعين بتربية الزاجل فى مصر- " الطيور تقوم فى البداية بتمرينات لياقة عن طريق دورانها فوق الأبراج. وعندما تبلغ ثلاثة شهور تبدأ نوعية أخرى من التمارين لتتعرف على الاتجاهات، ثم نأخذها إلى أماكن مختلفة بعيدة عن منازلها شمالا و جنوبا، شرقا و غربا لتتعود أن ترجع إلى اللوفت. بعد ذلك تبدأ مرحلة ثالثة من المران لكى يتدرب الحمام تدريجيا على طريق السباق. فإذا كان السباق من أسوان إلى القاهرة يتدرب الحمام على أن يطير من بنى سويف إلى اللوفت ثم من المنيا ثم من سوهاج و هكذا إلى أن يتعرف على الاتجاهات و قطع المسافات الطويلة" و يضيف اللواء العباسي- 66 سنة- " خلال المران يتم انتقاء السلالات الجيدة فمن يقع فى منتصف الطريق يتم استبعاده تلقائيا " . هواية المئة ألف أسرة عباسي تعد واحدة من ضمن قائمة طويلة تضم أكثر من مئة ألف هاو مسجلين فى الاتحاد المصري لهواة الحمام الزاجل على مستوى الجمهورية من مختلف الأعمار و المستويات الاجتماعية. و قد اعتاد هؤلاء الهواة المشاركة فى المسابقات المختلفة التى كانت تنظم وفقا لأعمار الطيور و للمسافات المقطوعة، لكن أزمة انفلوانزا الطيور قد أثرت سلبا على هذه ا لكرنفالات التى كان ينتظرها الهواة بفارغ الصبر . ذلك على الرغم من أن تقاريرمنظمة الفاو قد أشارت إلى أن "الحمام الزاجل يعد الطائر الوحيد الذي لا يصاب ولا يمرض و لا يحمل المرض" . اللواء سعد العباسي لا يجد أنه من المنطقى أن تقر اللجان التابعة لمجلس الوزراء تقارير الفاو ثم تقوم بهدم الكثير من اللوفتات خشية " الانتقال الميكانيكي" (أي انتقال المرض أثناء الهبوط لإلتقاط الحب من طيور أخرى مصابة، حيث يعلق روث الحمام المصاب بأرجله). يعترض اللواء العباسي قائلا: " هذه الطيور ثروة غالية، مقتنيها لا يتركها عادة تختلط بنوعيات رديئة من الطيور. كما أن لديها غريزة الحنين لذا فهي تطير ثم تعود دائما إلى عششها بشكل تلقائي، المشكلة أن معلومات الناس عادة ما تكون قائمة على الشائعات و ليس على الحقائق العلمية " حمام إبن أصل ثروة كبيرة من السلالات النادرة هى فى الواقع نتاج لخليط من ثلاثة عناصر : فلوس تاريخ ومجهود، فعائلة العباسي التى تقتنى الزاجل تشبه عائلة جونسون الانجليزية الشهيرة التى يعد منزلها مصدرا لتفريخ أجود عناصر الحمام . يقول محمد العباسي- الأبن كان الذى يشغل منصب رئيس الاتحاد الحالي : " نحن نعرف أصول الحمام. ده جده بطل أو أبو ه إلخ، مثل عالم البشر هناك حمامة بنت ناس و أخرى ملهاش اصل." فلكل حمامة رقم مسلسل مدون فى سجلات الإتحاد المصري للحمام الزاجل و هو يشبه الرقم القومي للمواطن . و لكل زاجل أيضا سيرة ذاتية تشبه ما يعرف بال cv عند البشر تقوم الأسرة على أساسه بتزويجه من " فرد " أصيل . و إذا كان سعر الحمام يتراوح ما بين عشرة جنيهات و سبعين ألف جنيها وفقا لنوعية السلالة فإن خزينة الأسرة تحتوى على ثروة تقدر بألف حمامة. و إن كان ذلك الرقم قد لا يكون دقيقا للغاية حيث تخشى الأسرة الحسد بشدة... يقول اللواء العباسي "فيه ميزانية أخرى للحمام للحفاظ عليه كثروة تتوارثها الأجيال . هناك نظاما غذائي معين يحصل عليه الفرد، إذ يتراوح غذاء فرد الحمام شهريا بين 5-8 جنيهات . و يتنوع النظام الغذائي طبقا للمواسم سواء التزاوج أو المسابقات أو موسم القلش أي عند تكوين الريش ." ثم يضيف اللواء العباسي:" بعد أزمة انفلوانزا الطيور ارتفعت أسعار السلالات المستوردة . الطيور التى كان سعرها لا يتجاوز المئة دولار قبل الأزمة قفزت إلى أكثر من ألف دولار" . لا يقتصر الموضوع على القيمة المادية لما تملكه الأسرة من طيور . فالمجهود المبذول مع طيور الزاجل له أيضا ثمن. يحكى محمد الابن الأكبر " ريش الحمام هو رأس ماله شأنه شأن العضلات للاعب الكرة فخبطة واحدة فى الجناح تعنى أن يعطل الفرد لسنة بأكملها عن الطيران كما أن تلوث الريش بروث الطيور قد يحتاج إلى إعادة بناءه الأمر الذي يستغرق شهورا طويلة " معارك آل العباسى للحفاظ على هذه الثروة الثمينة خاضت الأسرة معارك عديدة على مدار تاريخها من اجل الطيور، و إن كان التحدي الأكبر هى المعركة التى خاضها محمد سعد العباسي رئيس الإتحاد السابق عندما قامت الحكومة بهدم لوفتات الكثيرين من الهواة خوفا من تفشى مرض انفلوانزا الطيور. يؤكد محمد العباسى الذي استقال من عمله كضابط شرطة للتصدى لهذه المشكلة " لقد أجريت اتصالات على محاور عديدة مع كل من الفاو و المعامل البيطرية و الاتحادات العالمية و حملنا كل وثائقنا للمسئولين . و أخيرا استطعنا أن نستصدر قانونا يمنع هدم ال loft التابع للإتحاد قبل فضه، خاصة أن هذا الأخير كان يقوم بإجراء كشف دوري على طيور الأعضاء المسجلة بالإتحادات فى المحافظات المختلفة".الجد أيضا يناضل فى سبيل الحمام، فسعد بخبرته النادرة فى مملكة الطيور لديه مكتبة واسعة عن عالم الزاجل، ذلك فضلا عن أسرار خاصة بتربيتة و تغذيته لتحقيق أفضل نتائج ممكنة . أما عمرالحفيد فالموقع الخاص بالاتحاد العالمي biba هو مصدر معلوماته الأساسى . وهو يحتفظ بألبوم خاص يضم صور لطيوره المفضلة. كما يتعاون مع أبيه حاليا من أجل تأسيس موقع خاص بالعائلة على شبكة الانترنت وهو www.elabbassy.com . فتحدى العائلة هو الحفاظ على هذه الهواية رغم دوامات انفلوانزا الطيور و كذلك ضم اكبر عدد من الهواة الذي يصل عددهم إلى نصف مليون هاو و إن كانت مشكلة المرض اللعين تجعلهم يسيرون بجوار الحائط...