تثير إشكالية التعامل مع الحقبة العثمانية فى التاريخ المصرى ثلاثة أسئلة: السؤال الأول هل اعتبر المصريون المعاصرون للحدث فى القرن السادس عشر العثمانيون غزاة أم اعتبروهم مجرد حكام جدد؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة إلى المصادر المعاصرة للحدث، فماذا تقول تلك المصادر؟ لقد كان وقع الكارثة فادحا على وجدان المصريين؛ فوصف المؤرخ محمد ابن أحمد بن إياس المصرى الغزو العثمانى شعرا فقال: الله أكبر إنها لمصيبة وقعت بمصر ومالها مثل يرى ولقد وقفت على تواريخ مضت لم يذكروا فيها بأعجب ما جرى وفى موضع آخر من تاريخه يقول: «ومن العجائب أن مصر صارت نيابة بعد أن كان سلطان مصر من أعظم السلاطين فى سائر البلاد قاطبة، لأنه خادم الحرمين الشريفين، وحاوى ملك مصر الذى افتخر به فرعون اللعين حيث قال: «أليس لى ملك مصر»! وقد تباهى بملك مصر على سائر ممالك الدنيا، ولكن ابن عثمان انتهك حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها، وقتل أبطالها، ويتم أطفالها، وأسر رجالها، وبدد أحوالها، وأظهر أهوالها.. وأشيع أن ابن عثمان خرج من مصر وصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة.. هذا خارجا عما غنمه من التحف والسلاح والصينى والنحاس المكفت والخيول والبغال والجمال وغير ذلك، حتى نقل منها الرخام الفاخر، وأخذ منها من كل شىء أحسنه، ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبدا». ويقدم بعض الرحالة الأوروبيين صورا مماثلة لما أحدثه الغزو العثمانى بمصر، وكيف أضحت هذه المملكة الضخمة مجرد ولاية فى الإمبراطورية العثمانية، وكيف نقل سليم أروع كنوز مصر، حتى قطع الرخام ليستخدمها فى تجميل قصوره. ويلخص شاعر وفقيه مصرى هو الشيخ بدر الدين الزيتونى أحد نواب القضاة الشافعية، الذى توفى فى 25 من رجب سنة 924ه عن عمر يناهز أربعة وتسعين عاما. وكان شاعرا وزجالا وأدبيا إلى جانب اشتغاله بالقضاء. انتصار العثمانيين واستيلائهم على البلاد، فيقول: نبكى على مصر وسكانها قد خربت أركانها العامرة وأصبحت بالذل مقهورة من بعد ما كانت هى القاهرة وهذا شاعر آخر من شعراء القرن العاشر الهجرى هو الناصرى محمد بن قانصوه بن صادق، يصف الحوادث قائلا: كان فى مصر ملوك أظهروا فيها العجايب ذهبوا عنها وصارت دورهم فيها خرايب وهى أضحت بعد عز قرية فى حكم نايب هكذا كان تصور النخبة الفكرية فى مصر لما حدث، فهل هناك تعبير عن معنى الاحتلال الأجنبى أكثر من هذا؟ أما عامة الناس فى القاهرة وظواهرها فقد ظلوا يقاومون الغزاة العثمانيين تحت قيادة سلطانهم طومان باى ونجحوا فى تحرير المدينة لعدة أيام، لكن نيران مدافع العثمانيين التى ضربت المساجد التى تمترس بها المصريون قضت على مقاومتهم، وعندما توجه طومان باى إلى الصعيد التف حوله المصريون. أما فى ريف الدلتا وبعد شهور من الاحتلال العثمانى فقد التف الفلاحون حول رجل ادعى أنه السلطان الغورى، وفى هذا دلالة على الكيفية التى كان الناس فى مصر ينظرون بها إلى حكامهم الجدد. لقد كانت سنتا 922 و923 ه«1516 و1517م» سنتين من السنوات العصيبة فى التاريخ المصرى.. سنتان شهدتا سقوط دولة المماليك الجراكسة، وفقدان مصر لكيانها المستقل ودخولها عصرا جديدا من عصور التبعية لقوة خارجية صاعدة فى سماء المنطقة، فأصبحت مصر ولاية فى دولة كبرى مركزها إستنبول على مضيق البسفور. وبعد أن استمرت القاهرة لعدة قرون كمركز حضارى وسياسى أول فى المشرق العربى والإسلامى، ذوت لتصبح مجرد عاصمة لولاية يديرها وال مبعوث من قبل السلطان العثمانى. سنتان كانتا مليئتين بالحوادث والوقائع.. فقدت فيهما دولة المماليك اثنين من سلاطينها على يدى عدو خارجى، وسقط فيهما آلاف القتلى من المماليك وأبناء الشعب، ليبدأ عصر ظلام وجمود طويل فى تاريخ مصر.