فى الطريق إلى السفارة اللبنانية بالزمالك، حاولت ترتيب أسئلتى إلى الكاتب والمفكر خالد زيادة، فقلت: سأبدؤها بسؤال عن كتابه الأحدث «مدينة على الشاطئ»، إلا أننى حين رأيته فى مكتبه وسط الموظفين والأوراق وجوازات السفر لم أستطع البداية إلا بسؤال حول منصبه «سفير لبنان بالقاهرة»، متذكرا كثيرين كانوا أدباء ومفكرين ثم تحولوا إلى سياسيين أمثال نزار قبانى وعمر أبوريشة، وغازى القصيبى، وتوفيق يوسف عواد، وصلاح ستيتية، والشاعر الفرنسى «سان جون بيرس»، والشاعر التشيلى «بابلو نيرودا»، والشاعر المكسيكى «أوكتافيو باث». ● سألته: هل يحتاج الكاتب أو الأديب إلى مثل هذا المنصب؟ وماذا سيضيفه المبدع إلى الحقل الدبلوماسى؟ وهل سيفتح العمل الجديد آفاقا جديدة أمام الكاتب لإغناء تجربته الفكرية والأدبية لاحقا، أم أن الدبلوماسية ستضع قيودا تحد من إبداع الكاتب وحريته؟ - الواقع أن تعيين سفراء من خارج المجال أمر يحصل من حين إلى آخر، حين نسمع أن هذه الدولة أو تلك عينت سفيرا له خلفية جامعية أو فكرية. وأنا لا أريد أن أقارن نفسى بأسماء معروفة. الذى حصل أننى أستاذ جامعى أمضيت فترة طويلة فى التعليم والإنتاج الأكاديمى، خاصة فى العلاقات الثنائية بين البلدين. وحدث أن عينت لهذا المنصب فقبلته، واعتبرت أن هذه التجربة تستحق أن تخاض، والذى ساعد على قبولى التعيين للسفارة فى مصر، وهى بلد مهم، أن السفير اللبنانى فيها مندوب فى الجامعة العربية. وقد أمضيت ثلاث سنوات فى هذا المنصب، وكان همى الأساسى القيام بأعباء الوظيفة والمنصب الذى أسند إلىّ، وأتمنى أن أكون قد وفقت فى ذلك. ● لكن ألا تعتقد أن مهمات السفير تعطلك عن مشروعك الفكرى؟ - ربما، ووظيفة السفير لها مهمات متعددة، منها الاهتمام بالجانب الثقافى، وأنا مهتم بهذا الجانب اهتماما شخصيا، ولهذا عملت على تحضير أسبوع ثقافى لبنانى فى مصر، يشمل أنشطة ثقافية وفنية فى نهاية نوفمبر المقبل. ومعروف أننى لدىّ علاقات جيدة بالعديد من المثقفين المصريين قبل تولى منصبى. ووجودى فى القاهرة وسع من دائرة معرفتى بالوسط الثقافى المصرى. ● العلاقات الثقافية بين لبنان ومصر فى حالة ضعف مقارنة بالقرن الماضى وقبل الماضى.. - العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان قديمة، والنهضة الفكرية العربية قامت فى هذين البلدين بالدرجة الأولى. ومعروف أن اللبنانيين لعبوا دورا مهما فى نهاية القرن التاسع عشر فى تأسيس الصحف والمجلات فى القاهرة والإسكندرية وغيرهما كما ساهموا فى تأسيس المسرح، والسينما المصرية. والعلاقات بين البلدين كانت تبادلية؛ لأن ازدهار الثقافة فى مصر، وخصوصا فى النصف الأول من القرن العشرين قد أثر على تطور الأفكار فى المشرق العربى ولبنان. ولكن هذا التاريخ الذى اتسم بالإيجابية لا ينفى الحاجة اليوم إلى بذل مجهود من أجل تفعيل العلاقات بين البلدين، عبر إقامة أسابيع ثقافية؛ لأننا نلاحظ اليوم الحاجة إلى مزيد من العلاقات التبادلية. وتعريف الجمهورين فى البلدين إلى الإنتاج الثقافى والأدبى، ذلك أن معرفة أحوال الثقافة فى هذا البلد أو ذاك تقتصر اليوم على المثقفين تقريبا، ولهذا نحن بحاجة إلى قراءة هذه الوقائع، وقد يكون ذلك من خلال ندوات تتناول انتشار الرواية والشعر وغير ذلك، من خلال عقد لقاءات بين المبدعين والمفكرين للوقوف على واقع الحال. ● التبادل الثقافى بين البلدين موجود، ولكنه ضعيف؟. - بالطبع لا يمكننا أن ننفى أن التبادل قائم، ولكنه اختلف عما كان عليه الأمر فى الماضى. اليوم هناك نشاط للجانب الفنى أكبر من النشاط الثقافى، إذ نشهد نوعا من انحصار لتبادل المجلات الثقافية والفكرية. وبالتالى هناك تغيير فى الأنماط الثقافية اليوم يحتاج إلى قراءة وتحليل من جانب المعنيين أى من مفكرين ومؤرخى الثقافة. الظاهرة التى نلاحظها تتمثل فى نوع من الانكفاء الذاتى على الواقع الثقافى فى مصر وغيرها. ولاحظت أن الفترة التى شهدها الجيل السابق كانت تتميز بالانفتاح والتبادل أكثر من الواقع اليوم. والتبادل عموما بين المشرق والمغرب يقتصر فقط على المثقفين، وهو تبادل ضعيف. ● كتابك الأحدث «مدينة على الشاطئ»، الصادر عن دار الشروق.. يرصد تحولات المدن والريف دون أن تذكر اسم هذه المدينة، وكأنك تشرح ما آلت إليه المدينة المصرية، وبالتالى الشعب المصرى.. فهل ترى أن المدن العربية واحدة؟ - هذه الثلاثية بدأتها فى الجزء الأول تحت عنوان «يوم الجمعة.. يوم الأحد». والاستقبال النقدى الإيجابى الواسع دفعنى إلى كتابة الجزءين الثانى والثالث، وأكمل ما بدأته فى الجزء الأول والذى هو عبارة عن تجربتى الذاتية فى المدينة، بمعنى أدق رؤيتى خلال سنوات الصبى، والشباب للتغييرات التى لاحظتها فى مدينة هى نموذج للمدينة العربية، وخصوصا للمدن العربية المتوسطية. لكن الثلاثية ليست سيرة ذاتية؛ وإنما بدرجة أكبر سيرة للمكان وللمدينة فى تحولاتها فى فترات حاسمة من الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. وقد كتبت هذه الثلاثية فى مرحلة متقدمة نسبيا من عملى الأكاديمى، كما أن الخلفية التى تحكمت فى هذا العمل خلفية علمية، إذا جاز التعبير؛ فالثلاثية فيها أدوات غير مرئية مأخوذة بالانثربولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ، فهى ليست سردا أدبيا للوقائع وليست ذكريات أو الحديث عن التحولات؛ وإنما هناك نوع من رؤية للتحولات التى أصابت المدينة فى الفترة المذكورة، ولهذا السبب، وبالرغم أنى أكتب عن مدينة محددة هى طرابلس فى لبنان من خلال تجربة خاصة فإننى ارتأيت أن استخدم أسلوبا وتحليلا يخفض من شأن الإشارات إلى مدينة محددة؛ لأننى أعتبر ما شهدته هذه المدينة ينطبق فى خطوطه العريضة على كل المدن المشابهة. لنقل إنها سيرة مدينة فى فاصل زمنى محدد، يقوم طرفها على المتوسط الشرقى بينما يمعن بعضها الآخر فى تاريخ داخلى وقديم، بضع مئات من السنين يحملها عمران من حجارة رملية ومآذن ودروب ضيقة تجابه كل ما حملته بدايات القرن من نماذج تتبادلها شواطئ المتوسط. ● فى الكتاب إشارات عديدة إلى علاقة التعايش بين المسلمين والمسيحيين تصلح أن تنطبق على علاقة الأقباط بالمسلمين والتى تشهد حالة من الاحتقان فى الوقت الراهن، كما شهد من قبل ومايزال لبنان مثل هذه الحالات ولكن بشكل مختلف وبدرجات متباينة.. - طبعا تسمية الجزء الأول «يوم الجمعة.. يوم الأحد» قد يحيل من الناحية الرمزية إلى العلاقات المسيحية والإسلامية. وأنا شخصيا عشت جزءا من حياتى فى بيئة مختلطة فى مدينتى، وكنا أصدقاء دون تمييز فى الانتماء الدينى أو الطائفى ولا أنكر فكرتى أن حقبة الستينيات من القرن الماضى هى فكرة إيجابية. وشهد خلالها لبنان والعالم العربى كله ازدهارا ماديا وأدبيا وتحررا فى الأفكار، تلك الفترة ذهبية إذا جاز التعبير. ومن المؤسف أنها بقيت فريدة كحقبة هى فى نفس الوقت فريدة فى التاريخ الإنسانى. لهذا السبب أقول: الستينيات التى تكلمت عنها؛ لأنها تستطيع أن نستمد منها دروس للحاضر، وخصوصا فى العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أبناء البلد الواحد والوطن الواحد، لهذا السبب يجب أن نعيد الاعتبار لفكرة المواطنة على حساب الانتماءات الأخرى، وهذا أحد الدروس التى يستطيع اللبنانى التحدث عنها لغير اللبنانيين. ● كما اهتممت بدراسة تحولات المدن ركزت على علاقة الإسلام بالغرب، حيث نقبت عن بدايات الوعى الإسلامى لأوروبا فى كتابك «تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا».. لماذا؟ - اهتمامى الأكاديمى الأول كان فى موضوع علاقات الإسلام بأوروبا. والسؤال الأول لنفسى كان هو تأثير الحداثة الأوروبية على المسلمين. والشىء الذى سجلته فى كتاب بعنوان «المسلمون والحداثة الأوروبية»، أن هذه العلاقة مع الحداثة لم تبدأ بالحملة الفرنسية على مصر وإنما بدأت مع الدولة العثمانية قبل ما يقرب من مائة عام من حملة بونابرت، وذلك لأن العثمانيين شعروا بتفوق العسكرية الأوروبية بعد هزيمة وقعت 1699، وكان الملفت للانتباه للطبقة الحاكمة آنذاك صعود روسيا التى كانت من قبل دولة متأخرة. واستنتجوا بأن القيصر بطرس الأكبر قد توصل إلى تحديث جيشه حين أخذ بعلوم أوروبا وتقنياتها. وقد تابعت اهتمامى للعلاقة بين العالمين الإسلامى والأوربى، وكتبت «تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا»، وهو محاولة لرؤية هذه العلاقات عبر الحقبات الطويلة، والتحولات التى طرأت على نظرة المسلمين للأوربيين. باختصار، فإن المسلمين انتقلوا من الإهمال والاحتقار تجاه الشعوب الأوروبية إلى الإعجاب بسبب التطور الذى شهدته أوروبا فى العصور الحديثة إلا أنه إعجاب مشوب بكثير من الحذر. وما أستطيع أن أقوله إن العلاقات بين العالمين قد دخلت فى طور فى العقود الأخيرة أنا بصدد إعداد كتاب لرصد هذه التحولات الراهنة بينهما. ● لكن ذلك الإعجاب خفت، وبدلا من الأخذ بالمنتج الفكرى التنويرى عند الأوروبيين، اكتفينا بأخذ المنتج التقنى فقط كمستهلكين.. - هذا صحيح؛ لأن المطروح اليوم أمام المجتمعات الإسلامية مختلف عن المطروح فى زمن الطهطاوى أى فى عصر النهضة العربية، إذ كان هناك اندهاشا بالمدنية الغربية وإنجازاتها. وكان هناك نوع من التفاؤل بتعويض التأخر. لكن الجيل الذى جاء بعد جيل الطهطاوى لمس التعقيد فى العلاقات مع أوروبا والغرب، وخصوصا جيل الإصلاحيين أمثال محمد عبده الذى طرح فى المقابل مسألة إصلاح التفكير الإسلامى وصلاحية الإسلام لبناء المدنية الحديثة. ومن ذلك الوقت شهدنا تيارات منها يرفض الأفكار الغربية، ويقبل إنجازاتها المادية وتيارات أخرى أخذت بالعلمانية وبالديمقراطية، ورأت أنه لابد لكل شعوب الأرض تمر فى المسار الذى سلكته أوروبا. وأظن اليوم أننا أمام إشكاليات أكثر تعقيدا، لا يتسع المجال فى الخوض فيها؛ وإنما أقول إن الغرب نفسه يتغير وإدراكنا أيضا يتغير، وهذا ما يحتاج إلى بحث معمق.