الثانية بعد منتصف الليل نسيم الخريف البارد يسيطر على مطار كوم الدشمة فى الفيوم، ليلة السادس من أكتوبر، جميع الطيارين نائمون قبل بداية يوم آخر من التدريب الشاق يبدأ مع أول ضوء للشمس. استيقظ قائد السرب على كلمات من أحد الضباط المسئولين بشعبة العمليات الجوية، حضر بنفسه إلى المطار «قال لى الحرب بكره الساعة 2 الظهر». اللواء الطيار أحمد ماهر الرئيس الحالى لمجلس إدارة نادى الطيران، يتذكر ليلة حرب النصر التى استحضر كل مشاهدها وهو ينظر من «الفرندة» الكبيرة على تمثال مصطفى كامل، الزعيم الذى يراقب حركة المصريين من ميدانه الخاص بوسط المدينة. ذاكرة الطيار أحمد ماهر تحتفظ جيدا بتفاصيل الأيام الصعبة التى بدأت مع أيام الثغرة. يذهب ماهر على الأقل مرة أسبوعيا، إلى مقر النادى فى الدور الحادى عشر بعمارة الإيموبيليا التى تحتل مكانها فى شارع شريف بوسط المدينة منذ أكثر من 100 عام، ليتابع أخبار الأعضاء ويستمتع بالنظر على شوارع المدينة المزدحمة. مع مرور 37 عاما على حرب أكتوبر، ما زالت «كواليس انتصار أكتوبر لم تعلن حتى الآن»، كلما يستحضر اللواء السبعينى ذكريات قيادته سربا مكونا من أكثر من 20 طيارا، يتذكر أن أسرار الحرب حتى الآن سرية. فى ذلك اليوم البعيد ألقى قائد السرب الشاب أحمد ماهر نظرات حائرة على الأظرف الكثيرة التى تركها ضابط العمليات. لقد أعلنت ساعة الصفر. تذكر أنه قدم إلى مطار الفيوم فى أول أيام شهر أكتوبر 1973، بتعليمات من قائد القوات الجوية وقتها، الفريق محمد حسنى مبارك. «كانت التعليمات إن فيه حرب، لكن ما حدش صدق»، كان الحديث الذى يدور عندما يختلى ماهر مع زملائه مليئا بعبارات من اليأس دائما ما تسيطر على الأجواء «إسرائيل متفوقة فى كل حاجة وبيقولوا هنحارب»، لكن الجميع كانوا مؤمنين بعبارة الراحل جمال عبدالناصر «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». سرب صغير بالفيوم كواليس الحرب لم تكن معلومة وقتها، «القادة أنفسهم فى القوات المسلحة لا يعرفون مواعيد محددة أو خططا لخوض حرب تحرير سيناء»، والذكريات المعلقة فى أذهان الجميع محبطة منذ انتهاء حرب الاستنزاف التى سبقتها نكسة 67. يجلس القائد الشاب وحيدا فى الساعات القليلة الباقية يطلع على دور السرب الذى يقوده فى الحرب، ويحفظ التعليمات جيدا، ويفكر فى تلك الطائرات التى يستخدمها فريقه «كانت طائرات تدريب لا تصلح للقتال»، ويتذكر أن كل أعضاء السرب لم يتم تدريبهم على الطيران كفريق إلا قبل أيام. كانت أهم التعليمات التى قرأها ماهر هى عدم الاتصال بالقيادات نهائيا، «علشان كانوا شاكين إن العدو بيتصنت علينا»، خاصة بعد أن طرد السادات الخبراء الروس فى رأى ماهر، كان هناك نحو 200 طائرة مقاتلة مستعدة للحرب ضمن مجموعة النسق الأول، لكن دون الاتصال بالقاعدة الجوية. الأكواد المشفرة كانت موجودة داخل أظرف تحدد دور السرب الذى يقوده ماهر ضمن النسق الثانى، المقرر له المشاركة عند الحاجة. كانت مهمته اليومية الشاقة، «لازم أعمل تقرير عن حالة السرب» يتضمن عدد الإصابات فى الطائرات والأفراد، ساعات طويلة كان يقضيها وحيدا يترجم أحوال الفريق الصغير إلى الشفرة السرية. السرب الخاص بماهر كان قد عانى عند وصوله إلى مطار الفيوم غير المؤهل للتدريب فهو كان مجرد مخزن لبعض الطائرات الهليكوبتر، وعندما وضع قدمه داخل المكان «اكتشفت اننا حتى مش هينفع نزود الطيارة بالوقود». إعادة هيكلة القوات المسلحة تم خلال ست سنوات فقط «وده زمن قياسى». يتذكر اللواء السابق أن إعادة تأهيل القوات المسلحة، خاصة الجوية عقب النكسة، استمرت 6 سنوات بدأها جمال عبدالناصر، واستكملها أنور السادات. «شاركت عبدالناصر فى عملية بناء القوات المسلحة، وشاءت الأقدار أن استكمل البناء وحدى». إنها كلمات الرئيس الراحل أنور السادات فى خطابه الشهير عقب الحرب يوم 16 من أكتوبر 1973. تغيرت سياسة الإدارة الداخلية فى الكلية الجوية التى تنازلت عن بعض من شروطها القاسية لتعويض أعداد الطيارين، واستيراد الطائرات الجديدة لتغطية الخسائر، وتنمية خبرات المدرسين بتدريبهم فى روسيا. تم اختيار ثلاثة مطارات أخرى بديلة لقاعدة بلبيس، وتخصيصها كقواعد جوية هى مرسى مطروح والمنيا وإمبابة، لرفع التدريبات إلى ثلاث ورديات يومية، تدريبات ليل نهار، لا راحة لمعلمين. واستطاعت الكلية الجوية إنها تخرج فى ست سنوات عشرة أضعاف «من اللى خرجتهم فى تاريخها كله»، وتم فتح باب الكلية أمام طلاب الجامعات والثانوية الأزهرية، وتجنيد بعض الطيارين المدنيين. الثغرة وناقوس النكسة صباح يوم الحرب مع أول ضوء السرب الذى يجلس فى الفيوم مستعد للتدريب، لكن القائد ماهر يحمل أخبارا جديدة «قلت لهم احنا هنحارب النهارده»، الخبر الذى أذهل الطيارين لدقائق «خلاهم يفرحوا أوى وحماسهم زاد فى التدريب». استمرت تدريبات الفريق الصغير المنقطع تماما عن القيادات وأخبارهم، لكنهم يتابعون تطورات الحرب من خلال الراديو، وسعداء بالنصر الكبير الذى تحققه القوات المصرية، ويبلغ قائدهم التقرير اليومى عن حالة السرب، وينتظر التعليمات بالتحرك فورا إذا لزم الأمر. التعليمات الجديدة بدأت فى يوم 16 أكتوبر «بسبب الثغرة»، القوات الجوية احتاجت جميع فرق النسق الثانى للمشاركة فى إنقاذ الموقف الذى بدأ يسوء بفقدان عدد كبير من الطائرات الحربية المقاتلة. «كانت معركة كبيرة بيننا وبين إسرائيل»، حرب القوات الجوية ممتدة من شرق القناة لغرب القناة، الأهداف واضحة فى رأى اللواء السابق «العربات المسلحة، والأفراد والدبابات». عدد الطلعات اليومية لا يقل عن خمس، لكن سرب ماهر استطاع أن يحافظ على أرواح طياريه «خسرت ثلاثة فقط من السرب». الدفعات الأرضية الإسرائيلية كانت تهاجم الطائرات المصرية، وكذلك الطائرات التى ظلت أمريكا تمد إسرائيل بها. ولا ينسى ماهر تفوق إمدادات أمريكا للعدو، على إمدادات روسيا لمصر عشرة أضعاف، «روسيا لو بعتت 10 طائرات لمصر، أمريكا تبعت 100 لإسرائيل»، لأن أمريكا «مش هتسمح لروسيا تتفوق عليها». «سوف يأتى يوم نجلس فيه لنروى لأولادنا عن الفترة الحالكة التى ساد فيها الظلام، ونعلمهم وأحفادنا قصة الكفاح ومرارة الهزيمة وحلاوة النصر»، هذا ما قاله السادات خلال خطاب النصر الشهير الذى ألقاه داخل مجلس الشعب وهو يرتدى بذلته العسكرية. القوات الجوية عقب النكسة بشهر ونصف فقط، وتحديدا فى 15 يوليو 1967 «عملت ضربة جوية ضد إسرائيل علشان نرفع الروح المعنوية للشعب». يروى ماهر أن منصب قائد القوات الجوية شغله أربعة من الرؤساء خلال تلك الفترة القصيرة بين الهزيمة والنصر، خاصة بعد محاكمة قائد القوات الجوية الفريق محمد صدقى محمود، الذى مكث فى هذا المنصب نحو 14 عاما حتى عام النكسة. توجهات الرئيس الجديد رحلة روسيا للتدريب كانت ضمن خطط إعادة تعبئة القوات الجوية، ما زالت هذه التجربة عنوانا كبيرا محفورا ضمن ذكريات اللواء زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، هناك فى إحدى القواعد الجوية تلقى تدريبه ليعود إلى مصر معلما لجيل جديد من الطيارين قدر لهم خوض حرب النصر. قبل العودة من روسيا بأيام، أعلنت مصر عن وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، سيطر الحزن على المعسكر الجوى الذى نتدرب به فى روسيا، و«حصل هزة قوية فى الأوساط السوفييتية»، والترقب ظهر بشكل كبير على علاقة روسيا بمصر خلال الأيام التالية. الارتباك والقلق سيطرا على الشارع المصرى، والسؤال «ما هى توجهات الرئيس الجديد؟»، ولكن العمل داخل القوات المسلحة لم يتوقف «كل واحد عارف مهمته ويعملها من غير أسئلة». التواصل مع العائلات مفقود فى هذه الفترة داخل المواقع العسكرية «التليفون المنافيلا كان بيلقط الخط بالعافية»، والزيارات العائلية كانت «مرة فى الشهر»، كان اللواء لديه ابنتان ينتظر الاطمئنان عليهما كل فترة، ولكنهما كانتا بعيدتين عن مواقع الخطر الحدودية، فهما تعيشان فى القاهرة بمنطقة مصر الجديدة. ذكريات وصوله لزيارة أسرته محملة بالأسئلة، «كل بيت له عسكرى على الجبهة»، والجميع ينتظر أن يتلم شمل الأسر وتنزاح الغمة، «مراتى كانت بتسألنى عن نهاية الأوضاع» ولكن الاجابات دائما مموهة وسطحية. واستطاع الطيار العودة إلى بيته وأسرته عقب انتهاء الحرب وتحقيق النصر، كان هذا منتصف نوفمبر 73 عندما عرف أخيرا القائد المحارب طريق الاستقرار فى وسط أسرته. كلمات السادات ما زالت حاضرة بقوة «التاريخ سوف يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطا بل كانت كبوة». يصنف ماهر جيل حرب النصر بأنه أفضل لقيادته البلاد إلى الحرية، التى يفخر بها هذا اليوم جيل «بناته أرجل من شبابه»، ويصف شباب جيل الألفية بأنهم «صناعة تايوانى». اللواء الذى تربى فى طنطا، مع والده التاجر كان يحب الطيران بسبب أحد أبناء طنطا الذى سبقهم بدفعة وكان يأتى بالطائرة إلى البلدة الصغيرة ويطوف بها أعلى بيوت أصدقائه، دفعتى كان فيها سبعة من طنطا، والترويج كان سببه ذلك الشاب الطيار.