كل مائة عام، تبدو المكسيك وكأنها على موعد مع العنف. بينما تجتمع البلاد مساء الأربعاء لحضور احتفال ذكرى «جريتو» دعوة حمل السلاح التى بدأت حرب الاستقلال عن اسبانيا نعانى حاليا من أزمة عنيفة أخرى، وإن كانت أزمة تختلف بشدة عن مثيلاتها منذ قرن وقرنين من الزمان. ففى عام 1810 وعام 1910، اندلعت ثورة استمرت لعشر سنوات أو أكثر، وكانت شديدة التدمير حتى بدا فى كلتا الحالتين أن البلاد فى حاجة إلى عقود كى تعيد تحقيق مستوياتها السابقة من السلام والتقدم. ورغم ذلك، عززت كلتا الواقعتين التنمية السياسية فى المكسيك، وترتكز ذاكرتنا الجماعية حول هذين التاريخين اللذين اكتسبا مثل هذا التماثل والدلالة الاسطورية. وفى عام 2010، زلزل العنف المكسيك مرة أخرى، رغم أن حجم نزاع اليوم ومداه لا يقارن ولو من بعيد بما كان فى عام 1810 أو عام 1910. وتنتشر هذه الحرب داخل عصابات الجريمة وفيما بينها، وهى ترتكب الأعمال العنيفة التى تشعلها شهوة التنافس من أجل المال فقط. ويختلف هذا بشدة عن ثورات عامى 1810 و1910، حيث كانتا تمثلان تعارضا فى المثل العليا. وفى عام 1810، وجد الإسبان المولدون فى المكسيك الكريول أنه لا مفر من العنف باعتباره الوسيلة لنيل الاستقلال عن إسبانيا. وكانت مبادئهم مستوحاة من مذاهب مفكرى القرن السادس عشر مثل فرانسيسكو سواريس اليسوعى، الذى دافع عن «السيادة الشعبية.» ولكن كانت هناك مظالم محددة أيضا تحرك الكريول: فهناك هيمنة بغيضة طويلة الأمد من قبل رجال من شبه جزيرة أيبيريا، وكانوا غاضبين كذلك لأن ثروة المستعمرات الاسبانية التى تبدو وكأنها لا تنضب هى المورد المالى الأساسى للحروب المتهورة الخرقاء للإمبراطورية الإسبانية. ورغم تجاهل الملك المتكرر لفرص كان من المحتمل أن تؤدى إلى تجنب الثورة العنيفة، فقد عملت إسبانيا فعليا على تخفيف ارتباطها بأملاكها فى الخارج، ومنحت المكسيك درجة ما من الاستقلال. وعندما صاح قسيس المقاطعة ميجيل هيدالجو كوستيلا داعيا إلى حمل السلاح، جريتو، من على درج كنيسته دولوريس، تفجرت فى النهاية الحرب من أجل الاستقلال. وبعد فترة وجيزة، تسلح عدد كبير، معظمهم من الهنود الحمر، بواسطة العتلات والاحجار والهراوات، وغزوا عواصم اقليمية متعددة، وتوقفوا على بعد من العاصمة الادارية فى سيوداد دى مكسيكو ذاتها بمسافة قصيرة. ورغم القبض على الاب هيدالجو وإعدامه عام 1811، استمرت الانتفاضة تحت قيادة قس آخر، هو خوسيه ماريا موريوس، الذى ألقت الحكومة الإسبانية القبض عليه وأعدمته. لكن فى سبتمبر من عام 1821، نالت المكسيك استقلالها فى نهاية المطاف. وقد بلغت تكلفت حرب الاستقلال، التى استمرت من 1810 إلى 1821، نحو 200000 من الأرواح من بين عدد السكان البالغ 6 ملايين نسمة. ولم يصل بعد ذلك دخل الدولة ولا الزراعة ولا الانتاج الصناعى والتعدينى، وقبل كل شىء رأس المال المتوافر للاستثمار، إلى المستويات التى كان عليها قبل عام 1810 حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومرت بعد هذا الدمار المادى خمسة عقود تقريبا من انعدام الأمن على الطرق، وزعزعة الاستقرار السياسى والحروب الأهلية والدولية البشعة. وكانت هناك أيضا سلسلة من المواجهات بين الفصائل الليبرالية والمحافظة بالبلاد حتى انتصر الرئيس بينيتو خواريس على المحافظين والجيش الفرنسى الذى كان يدعمهم. بعد هذه الحقبة غير المستقرة، فصلت الحكومة الليبرالية الكنيسة عن الدولة، وتبنت بنية سياسية مستقرة قائمة على الانتخاب. ولسوء حظ ديمقراطيتنا الوليدة، استولى بورفيريو دياز، القائد العام لدى خواريس، على السلطة عام 1876. ومع ذلك، حققت المكسيك فى ظل نظام حكمه التسلطى الطويل تقدما ماديا ملحوظا فى التنمية الصناعية، وشبكة المواصلات، والتجارة الخارجية. وفى عام 1910، وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الديكتاتورية، آمن قسم كبير من الشعب بأن العنف هو السبيل الوحيد للإطاحة بدياز. ونجحت ثورة ديمقراطية خالصة قصيرة فى بلوغ هدفها، ولكن سرعان ما انتكس الوضع بسبب انقلاب عسكرى مدعوم من السفير الأمريكى. وأدى هذا العدوان الجديد على شرف ورفاهية البلاد إلى جانب المظالم المتراكمة للفلاحين والعمال والوطنيين من الطبقة الوسطى إلى أول ثورة اجتماعية حقيقية فى القرن العشرين. وكانت ثورة عام 1910 أكثر تدميرا من سابقتها فى عام 1810. ومات نحو 700000 من بين 15 مليون مكسيكى فى ساحة القتال، أو بسبب المرض والمجاعة. وهاجر 250000 غيرهم إلى الولاياتالمتحدة. كما هبط الإنتاج الصناعى. وأفنيت مزارع ماشية وقرى ومدن. ومن عام 1926 إلى عام 1929 حل مزيد من الدمار بسبب حرب نشبت بين الفلاحين الكاثوليك والحكومة المعادية لرجال الدين؛ وكانت تكلفة انتصار الدولة فى نهاية المطاف إزهاق 70000 من الأرواح. وفى بداية 1929، أقامت البلاد حكومة مركزية مرة أخرى (رغم كونها ليست على غرار حكومة خواريس الرئاسية) تحت هيمنة الحزب الدستورى الثورى. وقامت الدولة بإصلاح زراعى، وحسنت ظروف العمال جوهريا، وأنشأت المؤسسات العامة الخاصة بالرفاهة الاجتماعية التى لاتزل باقية وفى حال جيدة، وأشرفت على عقود من النمو والاستقرار. ومن وجهة نظر معظم علماء التاريخ، بررت الإصلاحات الاجتماعية الكبيرة التى اكتملت على يد الحكومات التالية عقود العنف التى تسببت فيه الثورة المكسيكية. واليوم، أطلق عدد قليل من مجموعات الجريمة القوية العنان لموجة عنف غير شرعية تماما ومشبعة بالدم ضد الحكومة المكسيكية والمجتمع المكسيكى. خلقت هذه «الحرب» التى احتدمت فى مدن ومقاطعات عديدة، حالة «هوبزية» بحق من الوحشية الإنسانية. ويعتبر هذا الوضع، فى جزء منه، نتيجة لتحول المكسيك إلى الديمقراطية بصورة نهائية. فخلال العشر سنوات الماضية، تعددت عواقب تأثير اللامركزية فى السلطة، وتخفيف القبضة السلطوية للرئيس، ومنح مزيد من الحرية للقوى المحلية التى تتضمن لسوء الحظ كارتيلات المخدرات والمشروعات الإجرامية الأخرى. رغم ذلك سوف يتم النصر فى هذه الحرب وسوف يتم إحياء النمو الاقتصادى ضمن قواعد الديمقراطية. ولابد أن يتفق الكونجرس المكسيكى مع الرئيس فيليب كالديرون على الإصلاحات التى تجعل الاقتصاد أكثر انفتاحا وقدرة على المنافسة وأكثر فاعلية. وسوف يتطلب الصراع ضد الجريمة المنظمة قوة شرطة مركزية أكثر نزاهة واحترافا؛ وتأمين السجون؛ وتحكما أفضل فى الأجهزة المختصة بالجمارك وتدفق الأموال، وتغييرات فى النظام الحقوقى، إلى جانب حملات على المستوى الوطنى ضد إدمان المخدرات. وبصرف النظر عن الأساطير الدموية التى تبجل زعماء 1810 و1910 العظماء، الذين مات معظمهم ميتات وحشية، كانت القواسم المشتركة فى تاريخنا الوطنى هى التعايش الاجتماعى والإثنى والدينى؛ والبنية السلمية للمدن والقرى والمجتمعات المحلية؛ وخلق فسيفساء ثقافية ثرية. ويريد كثيرون منا تصديق أننا نعيش كابوسا، وسوف نستيقظ ببساطة منه ذات صباح، ويغمرنا الارتياح مرة أخرى. لكن ليس على هذا النحو تمضى الأمور. فنحن نتعامل مع وضع نشأ، إلى حد بعيد، عبر سوق المخدرات والسلاح فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبسبب رفض أمريكيين كثيرين الاعتراف بما أسهموا به فى هذه الأحداث المأساوية. وسوف تمتد حرب المخدرات على كل جانبى الحدود. ومع ذلك، فى مساء الأربعاء 15 سبتمبر وكما نفعل منذ 200 عام، سوف يجتمع المكسيكيون معا فى الميادين المركزية فى المدن والبلدات، حتى فى أصغر وأبعد القرى، وفى منتصف الليل» سوف تتمتلئ كل الميادين فى أنحاء المكسيك بالأضواء والموسيقى والألوان. وفى المركز التاريخى لمكسيكو سيتى، سوف نشاهد ألعابا نارية ومواكب، وسوف نسمع الرئيس كالديرون يقرع جرس الكنيسة الذى قرعه من قبل ميجيل هيدالجو وعندها سوف نصيح جذلا، بمشاعر حقيقية: «تحيا المكسيك»!