أرأيت كيف أن امتداح النظام المصرى أصبح سُبَّة وتهمة تجرح عدالة واستقامة الدبلوماسى الأجنبى. صحيح أن ذلك الامتداح يطربنا وتبرزه صحفنا على صفحاتها الأولى باعتباره شهادة من جهة أجنبية لا يشك فى صدقها. لكنه فى المجتمعات الغربية يسحب من رصيد المادحين وأحيانا يهدد مستقبلهم. على الأقل فذلك ما حدث مع السفير الأمريكى السابق فى مصر فرانسيس ريتشاردونى الذى تورط ذات مرة وقال «إن فى مصر توجد حرية كتلك التى توجد فى الولاياتالمتحدة». وأغلب الظن أن الرجل الذى لابد أنه يعرف الحقيقة، قال الكلام على سبيل المجاملة، التى تصور أنها قد تساعده على توثيق صلاته مع القاهرة وإنجاح مهمته فيها. لكن ما قاله سجل على موقع وزارة الخارجية الأمريكية، وتحول إلى نقطة سوداء فى تاريخه. حيث اعتبرت مجاملته للنظام المصرى إهانة للقيم الأمريكية. أما كيف حدث ذلك فإليك الحكاية: رشح الرئيس أوباما السفير ريتشاردونى الذى يشغل الآن منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الأفغانية، سفيرا لبلاده إلى تركيا. وأرسل الترشيح إلى مجلس الشيوخ للتصديق عليه، ولكن الترشيح تعثر لأن أحد الأعضاء راجع سجله وعثر فيه على شهادته سابقة الذكر. ومن ثم اعتبر ذلك خطيئة يصعب اغتفارها. ووجه السيناتور الجمهورى عن ولاية كانساس سام بروبناك رسالة بهذا المعنى إلى وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون قال فيها إن ريتشاردونى له سجل سيئ فى خدمة القيم الأمريكية الخاصة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بسبب تأييده لنظام الرئيس حسنى مبارك خلال فترة خدمته بالقاهرة. وأنه بذلك ساهم فى زعزعة ثقة الجماعات المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان حول العالم فى التزام الحكومة الأمريكية بالديمقراطية، وأشار الخطاب الذى نشرت صحيفة «الشروق» تفاصيله (فى 20/8) أن ريتشاردونى كان سفيرا فى مصر أثناء إدارة الرئيس جورج بوش. التى كانت معنية بأوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان فى مصر، وأبدت حرصها على دعم الجماعات المعارضة من هذا الباب، ولكن ريتشاردونى بكلامه قلل من تأثير تلك الجهود وخفف من حدتها، حين تبنى وجهة نظر النظام الرسمى المصرى. ذكر السيناتور برونباك أيضا أن مصر تمر بمرحلة مهمة فى تاريخها. وأنه كان يود لو أن جماعات المعارضة الليبرالية أصبحت فى وضع أفضل يمكنها من دعم أجندة الإصلاح السياسى فى البلاد، وأنه يخشى أن يكون كلام السفير ريتشاردونى قد أحدث تأثيرا سلبيا فى هذا الصدد. ثم وجه عدة أسئلة إلى وزيرة الخارجية السيدة كلينتون. وطلب منها أن تجيب بوضوح عليها فى المقدمة منها سؤالان هما: هل طلب السفير ريتشاردونى من وزارة الخارجية الأمريكية أن تخفف من حدة بياناتها بخصوص قضايا حقوق الإنسان فى مصر، قبل نشر تصريحات الرجل على موقع وزارة الخارجية أو موقع السفارة الإلكترونى؟ هل يعتقد ريتشاردونى أن العملية الديمقراطية والحريات السياسية شهدت تطورا حقيقيا فى مصر خلال السنوات الأخيرة. خاصة مع التعديلات الدستورية التى أسهمت فى تحجيم التطور الديمقراطى؟ فى نهاية خطابه ذكر السيناتور برونباك أن العلاقات الأمريكية التركية تمر بمنعطف خطير، على إثر تصويت تركيا ضد فرض عقوبات على إيران. إضافة إلى تداعيات الموقف التركى فى أعقاب ما جرى لأسطول الحرية. وهى ملابسات تستدعى وجود سفير للولايات المتحدة يكون قادرا على تحمل مسئولية هذا الموقف الدقيق. واعتبر أن سجل ريتشاردونى فى مصر بوجه أخص يشهد بأنه ليس فى مستوى تلك المسئولية. لست واثقا من أن الولاياتالمتحدة حريصة على الديمقراطية فى مصر، حيث من الطبيعى أن تكون أشد حرصا على مصالحها، علما بأن فى واشنطن أطرافا أخرى ترى أن الديمقراطية الحقيقية يمكن أن تأتى فى مصر بعناصر وطنية تهدد تلك المصالح. كما أنى من الذين يتشككون كثيرا فى فكرة دعم واشنطن لما تسميه بالمعارضة الليبرالية التى تتوسم فيها موالاة الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ولكن ما يهمنى فى الرسالة أمران. الأول والأهم هو ذلك الغضب الذى عبر عنه السيناتور برونباك حين وجد أن سفير بلاده وضع الحريات فى مصر على قدم المساواة مع نظيرتها فى الولاياتالمتحدة. أما الثانى فهو تلك الجدية والصرامة التى يتعاملون بها مع عملية تعيين السفراء فى الخارج. وبطبيعة الحال فإننى لست مشغولا بالأمر بالثانى، لأن ما استشعره من حزن على سمعة مصر التى جعلت البعض ينأون بأنفسهم عنها، ويفرون من الاقتراب بها فرار السليم من الأجرب، يصيب المرء بالاكتئاب والخجل.