على مأدبة الإفطار السنوية، تقوم هويدا كل عام بدعوة زملائها المسلمين للإفطار فى منزلها القابع بحى جاردن سيتى العريق. هنا مازالت هويدا تعيش مع والدتها وشقيقيها بعد رحيل رب الأسرة، المثقف القبطى البارز. مع مجىء شهر رمضان، تسرى أخبار المأدبة بين الزملاء عبر رسالات المحمول حول أسماء المدعوين وما سيقوم كل منهم باستحضاره فى «الديش بارتى» السنوى الذى يجتمع فيه الزملاء من العقيدتين على مائدة واحدة، بعيدا عن تكلف الاحتفالات الرسمية و«اصطناعيتها» إن صح التعبير. قبل العشر الأواخر من رمضان، تسير الاستعدادات للمأدبة فى بيت هويدا على قدم وساق، لا سيما أنها تحرص كل الحرص على حضور زملائها الأكثر التزاما والذين يفضلون الاعتكاف فى الأيام الأخيرة. تقوم الأسرة التى تقطن شقة من طابقين بإخلاء الطابق السفلى للمدعوين بينما ينسحب باقى أفراد الأسرة إلى الطابق العلوى حتى يتسع المكان لأكبر عدد من الزملاء وأسرهم فى هذا الاحتفال السنوى الذى تحرص هويدا على إحيائه منذ أكثر من عشر سنوات. ورغم أنها تترك مساحات للصلاة فى مكان الاحتفال، لكن قد تفضل بعض الزميلات المسلمات الصلاة فى الطابق العلوى، لا سيما فى غرفة هويدا التى تعرف جيدا اتجاه القبلة. فهويدا هى همزة الوصل فى هذا المنزل الذى يستقبل أحفادا مسلمين ومسيحيين. فهى خالة لناجى ذى الثمانية عشر ربيعا والذى تزوجت والدته من زوج من نفس ديانتها بينما استجابت أختهما الأخرى سلوى لنداء القلب واقترنت بشاب مسلم لتنجب كريم، 8 سنوات، وسارة، 12 سنة. ورغم المشكلات التى صادفت هذا القران فى أول أيامه، سواء من العائلتين أو تعليقات المحيطين والمقربين: «من قلة المسيحيين تتزوج من مسلم!». كما أن هناك آخرين أكثر تحفظا، أخذوا بالفعل قرارا بالابتعاد عن الأسرة التى وافقت على مصاهرة ابنتها من مسلم. بل أكثر من ذلك فقد حدث نوع من القطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة لفترة. فبينما فضلت الأم والأخت الكبرى الخصام فى هذه الأثناء، بدا الأب وهويدا وأخوها أكثر تسامحا إزاء أحكام القلب. وما هى إلا شهور قليلة وانتصر الحب وصلة الرحم على غضب الأم التى مازالت تفتح بيتها لليوم كل جمعة لتطهو لأحفادها من الملتين أطباقها التى لا تقاوم. من الوهلة الأولى، تستطيع أن تستشعر نوعا من التعددية فى أرجاء هذا البيت. فرغم أن الصليب يتدلى على الحائط، قد ترى مسابح من القدس ذات ثلاثين حبة تتعانق مع أخرى ذات 33 حبة أهداها أحد الأصدقاء للأسرة من رحلة عمرة قريبة. هويدا بوجهها الهادئ وعينيها الخضراوين، وشعرها الذى قصته كذيل حصان خلف ظهرها هى الدينامو المحرك للبيت. تتدلى سلسلة من عنقها لا تكاد تخلعها تحمل عناق الهلال مع الصليب، صممتها خصيصا لدى أحد الصاغة. هذه الحلية تحمل أكثر من معنى لديها، وتثير حيرة الفضوليين الذين سيتساءلون إلى أى الديانتين تنتمى. هى بالفعل حملت على عاتقها فكرة تذويب هذا الاختلاف وخلق مساحة من التقارب. «الاختلاف موجود، يفرض نفسه بشدة لكن التحدى الأكبر يكمن فى تقليله للحد الأدنى» هكذا تلخص هويدا، 38 عاما، أستاذة بالجامعة فلسفتها. ففى رأيها هناك أرض رحبة من المبادئ المشتركة. تستطيع الجدة العجوز أن تجمع أحفادها الثلاثة لتحكى لهم حكايات عن أهمية الصدق والصبر والتعاون وحب الناس وغيرها من المبادئ. تحرص الجدة فى يوم الجمعة ألا تحتوى أطباقها على أى شىء قد لا يستطيع كريم وسارة تناوله، فتتجنب لحم الخنزير على مائدتها. الخالة هويدا لا تألو جهدا فى اصطحاب الأولاد الثلاثة إلى المساجد الأثرية كمسجد ابن طولون وصلاح الدين وغيرهما كما تصطحبهما إلى الكنائس العتيقة: «أحاول أن اخلق نافذة يستطيع الأولاد التعرف منها على ذلك الآخر الذى لا يعرفونه بينما هو الشريك فى الجدود والأخوال والبيت الواحد». يحاول ناجى تقليد سارة وزملائه المسلمين فى صيام رمضان فينقطع عن الطعام حتى المغرب على سبيل التجربة. وهو ما قد تحاول سارة فعله فى أثناء صيام العذراء مع باقى أفراد الأسرة. أحيانا أخرى تمطر خالها بوابل من الأسئلة عن الدين المسيحى. فلديها تعطش كبير لمعرفة الأفكار وراء الأيقونات والصور. ربما كانت أسئلة ناجى أكثر عمقا فهو يقتحم مناطق محظورة. فهو قد يبادر الخال بسؤال عن ماهية ابن الرب يسوع بينما يرى أولاد خالته أن الله لا يلد ولم يولد. يقول الخال: «أنا لا أحاول مطلقا أن أدخل فى مناطق الاختلاف بين الدينين لا سيما بالنسبة لسارة وكريم لأنهما مازالا صغيرين. وإن كنت أحيانا أضطر للإجابة عن بعض أسئلة الأولاد بشكل حيادى تماما، مبرزا أوجه الاختلاف دون أن أظهر مطلقا انتمائى لإحدى العقيدتين حتى لا يقع الأولاد فى براثن الصراع النفسى». وإزاء هذا الحوار المفتوح ربما قد تبادره سارة بسؤال أجرأ ربما يحيرها «هل الدين اختيار أم إجبار؟ لماذا ولد ناجى مسيحيا ولماذا ولدت مسلمة» ؟. تسأل أيضا: «ولماذا لا نختار ما نؤمن به عندما نكبر؟». أما الصغير كريم، فعندما كان أصغر سنا، كان لا يكف من كتابة الخطابات إلى «بابا نويل» الذى قد يهديه هدية فى عيد الميلاد. أما اليوم فقد أدرك أن الخالة هويدا هى فى الواقع ذلك ال«بابا نويل» الذى يجلب له هدية فى الكريسماس ويمنحه العيدية المعتبرة فى عيد الفطر على حد سواء. بل مازال مشهد الذبح وقصته الشهيرة ماثلة فى وجدانه منذ عيد الضحى الماضى عندما اصطحب والده يوم النحر. تجربة مميزة تعيشها الأسرة يعطيها نوعا من التفرد فى شارع أحيانا يصل إلى درجة الغليان فى أثناء خلاف حول ترميم كنيسة أو تحول أحدهم من المسيحية إلى الإسلام أو العكس. ولكن فى بيت هذه الأسرة معايشة الاختلاف وسط نسيج التفاصيل اليومية للحياة لا يدع مساحة لهذا التوتر. تقول هويدا «لقد تجولت مع أبى فى بلدان كثيرة ذات ثقافات وأديان مختلفة. من تونس إلى فرنسا ومن لبنان إلى الاتحاد السوفييتى. تعلمت من هذه التجارب الحياتية كيف يمكن أن أعرف الآخر وأحترمه دون أن أذوب فيه تماما». مازالت جذور هويدا وأسرتها الشبراوية تضرب بعمق فى هذا الحى المعروف بقبطيته التقليدية. لكن هويدا تعتقد بأن صفة مسيحى ومسلم المفروضة علينا فى بطاقة الهوية يجب مطلقا ألا تحدد علاقات الفرد بالناس ولا رأيه فيهم. رأيها ببساطة: «العلاقات الإنسانية وحياة الناس حاجة، وعلاقتهم بربنا والآخرة حاجة»، هكذا تقول هويدا ثم تتذكر لحظة وهى تستشهد بالآية القرآنية: «ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون».