اكتشاف العلاقة بين انقطاع التيار الكهربائى فى مصر، وبين تصدير الغاز لإسرائيل ليس خبرا عاديا يقرأ فى الصحف ثم يعبره الناس إلى غيره من أخبار الصباح، ولكنه حدث كبير يفترض أن يزلزل أى مجتمع، لذا ينبغى أن يعطى حجمه من الاهتمام والصدى. صحيح أننا استهولنا فكرة تصدير الغاز إلى إسرائيل بما يوفر لها طاقة تمكنها من تعزيز قدرتها وممارسة سياسة البطش بالفلسطينيين وتهديد الأمن العربى. وأذهلنا ما قيل عن بيع الغاز إلى الدولة العبرية بأقل من الأسعار العالمية، واستغربنا بشدة فكرة أن تستمر مصر فى تزويد إسرائيل بالغاز فى الوقت الذى تغرق فيه غزة فى الظلام، لكن ما لم يخطر على بالنا أن يدفع الشعب المصرى ثمن هذه الخطيئة فى نهاية المطاف. إذ لم نتصور يوما ما أن تستمر فى عملية تصدير الغاز رغم أن ذلك يؤثر على كفاءة تشغيل محطات الكهرباء. بما يؤدى إلى انقطاع التيار الكهربائى فى أنحاء البلاد، ويعيدها إلى أجواء القرون الوسطى كما قيل بحق. هذا الربط بين أزمة انقطاع التيار الكهربائى فى أنحاء البلاد وبين توريد الغاز لإسرائيل ليس تكهنات صحفية أو اجتهادات إعلامية، ولكن خبراء وزارة الكهرباء هم الذين نبهونا إليه، إذ قال قائلهم إن نسبة الغاز الطبيعى المستخدم فى محطات الكهرباء تراجعت بسبب تصديره، حتى وصلت إلى نحو 79٪ بعد أن كانت 89٪، الأمر الذى اضطر المسئولين إلى استخدام المازوت لتعويض النقص، مما أضر بكفاءة تشغيل محطات الكهرباء وتعطيل بعضها عن العمل. المشهد الراهن يستدعى بقوة ملف الاتفاقية المشئومة والظروف الغريبة بل والمريبة التى أحاطت بها. وهى التى مازالت تثير العديد من التساؤلات حول ملابسات ودوافع السرية غير المبررة التى أحيطت بها رغم أنها اتفاقية تجارية تتعلق بثروة طبيعية للبلد. خصوصا أن السرية لم تقف عند حد إخفاء تفاصيلها عن الرأى العام المصرى، وإنما تجاوزت ذلك إلى تمرير الاتفاقية من وراء ظهر مجلس الشعب، بالمخالفة للقانون. على صعيد آخر، فإن الأزمة تسلط الضوء على أمر آخر أشد غرابة وأكثر مدعاة للدهشة والحيرة. ذلك أن ملابسات الموضوع استفزت الجماعة الوطنية فى مصر. وباسمها رفع المحامى الدولى والسفير السابق الأستاذ إبراهيم يسرى قضية طالب فيها بإبطال الاتفاقية استنادا إلى فساد الإجراءات التى اتبعت فى توقيعها وإضرارها باقتصاد مصر وأمنها القومى. ومرت القضية بمراحل مختلفة، كان آخرها حكم المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة الذى أصدره المستشار محمد أحمد الحسينى رئيس المجلس الذى انتقد ثغرات الاتفاقية «لعدم توفيرها لآلية المراجعة الدورية للكميات والأسعار خلال مدة التعاقد (15 عاما) بما يحقق الصالح المصرى ويضمن توفير الاحتياجات المحلية». أهمية الحكم الذى صدر فى 27 من شهر فبراير من العام الحالى «2010» تكمن فيما يلى: إنه نهائى وواجب النفاذ، بعد صدوره من أعلى سلطة فى القضاء الإدارى إنه يقضى بعدم تصدير الغاز إلا بعد سد حاجات الاستهلاك المحلى أن يكون التعاقد على أساس السعر العالمى المعمول به فى الأسواق أن يراجع العقد بصفة دورية كل سنة فى ضوء الاعتبارات سابقة الذكر «حاجة الاستهلاك المحلى وأسعار السوق العالمية». جاء الحكم صادما لما سمى ب«لوبى» تصدير الغاز فى مصر، الذى يضم أناسا من الموالين والمنافقين والعاجزين سياسيا والبيروقراطيين الذين يميلون مع الريح. لكنه أشاع فرحة غامرة فى أوساط الجماعة الوطنية المصرية، إلا أن الفرحة لم تدم طويلا للأسف. ذلك أن فريق المحامين الذين رفعوا القضية، وعلى رأسهم الأستاذ إبراهيم يسرى، قاموا بإعلان وزارة البترول والهيئة العامة للبترول بصيغة الحكم النهائى، لاتخاذ إجراءات الالتزام به وتنفيذه، لكن الجهتين تجاهلتا الحكم وامتنعتا عن تنفيذه، رغم أنه واجب النفاذ ولا مجال للطعن فيه. ورغم أن الامتناع عن تنفيذه يعرض مسئولى الجهة المختصة للمساءلة القانونية والعقاب بالحبس والغرامة. وبطبيعة الحال فإن مسئولى الوزارة والهيئة ما كان لهم أن يتحدوا حكم الإدارية العليا ما لم يكونوا قد أعطوا ضوءا أخضر بذلك ممن هم أعلى منهم. ولايزال حكم المحكمة مجمدا وممنوعا من الصرف لأسباب سياسية منذ ستة أشهر. فى حين لم تتوقف أبواق السلطة عن التشدق بسيادة القانون فى أزهى عصور مصر! هذه الخلفية تقدم الإجابة عن السؤال الذى تلقيته من أحد القراء (أحمد فؤاد من الجيزة) الذى قال فيه: لماذا لا نفعل مثلما فعلت روسيا التى أوقفت تصدير القمح حين واجهت أزمة فى محصولها، فتوقف حكومتنا تصدير الغاز إلى إسرائيل لأن مصر تعانى من أزمة مماثلة؟ السؤال وجيه وصاحبنا معه كل الحق فى طرحه. إلا أن الشىء الوحيد الذى لم يلحظه أن روسيا دولة تملك إرادتها، ولكن الإرادة المصرية فى الموضوع الإسرائيلى مغيبة وفى إجازة مفتوحة!