نحن أمام مفارقة خطيرة يكشف عنها المشهد السياسى الراهن فى مصر. فبينما يتعالى حديث العديد من النشطاء والمثقفين والإعلاميين عن حتمية التغيير وتتسارع وتيرة حركة قوى المعارضة الحزبية وغير الحزبية فى اتجاهات متنوعة (تشكيل الجمعيات والتحالفات ونقاشات المقاطعة والمشاركة فيما خص الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة)، يغلف الجمود الحياة السياسية الرسمية ويلتزم خطاب نخبة الحكم بالاستقرار كهدف أسمى (إن لجهة هوية مرشح الحزب الوطنى للرئاسة أو لجهة التوجهات الداخلية والخارجية) ويشدد على أن الانتخابات القادمة ستنظم وفقا للقواعد الدستورية والقانونية المعمول بها دون تعديل أو تبديل. تتوالى بيانات ومؤتمرات ولقاءات قوى المعارضة ويفرد للحوارات مع نشطاء الديمقراطية ومثقفى التغيير مساحة واسعة فى الصحافة المستقلة والإعلام الفضائى، ونخبة الحكم على حالها تبدى عدم الاكتراث وتنزع لاستبعاد مطلبية التغيير كصنو حديث غير مسئول وغير مجدٍ. ولم يدفع، على سبيل المثال لا الحصر، لا تبنى جماعة الإخوان المسلمين لمطالب الدكتور البرادعى والجمعية الوطنية التغيير وشروعها فى جمع توقيعات المواطنين ولا تهديد بعض أحزاب المعارضة بمقاطعة الانتخابات النخبة إلى مراجعة موقفها. يصبح السؤال الملح إذن هو عن ماهية العوامل الكامنة وراء عدم اكتراث النخبة بفعل المعارضة وعزمها على المضى قدما فى المسار الذى حددته سلفا للانتخابات البرلمانية والرئاسية. بعيدا عن مبالغات ذلك النفر من المراقبين والمتابعين للحياة السياسية فى مصر الذى بات لا يرى فى النخبة سوى عصابة من المأجورين المعادين لمصالح الشعب المصرى والمهمومين فقط بهاجس البقاء فى السلطة. يمكن القول إن العامل الأساسى وراء عدم اكتراث النخبة يرتبط بهزال المعارضة وضعفها البيِّن وغياب بوصلة التوجيه الإستراتيجى لدى العدد الأكبر من أحزابها وجماعاتها وجمعياتها. فحزب الوفد، وعلى الرغم من حيويته الراهنة بعد تجربة انتخاباته الداخلية وفى ظل قيادة جديدة تتسم بالدينامية، يتأرجح بين تأكيد المشاركة فى الانتخابات وتلويح على استحياء بإمكانية مقاطعتها إن غابت ضمانات النزاهة. أما جماعة الإخوان وهى وباستثناء انتخابات 1995 البرلمانية التى قاطعتها شاركت فى جميع الانتخابات التى أتيح لها المشاركة بها فتبدو عازمة على المشاركة فى انتخابات 2010، إلا أن رغبتها فى استمرار الانفتاح على حركات كالجمعية الوطنية للتغيير والحفاظ على درجة من التنسيق معها تدفع قياداتها أيضا إلى التلويح خطابيا بإمكانية المقاطعة. وفى المجمل تكرر بقية قوى المعارضة ذات التأرجح بين توجه المشاركة وحديث عن المقاطعة. كما تشترك مع الوفد والإخوان فى الهزال الشديد لاستعداداتها للانتخابات البرلمانية التى لم يعد يفصلنا عنها سوى أشهر محدودة فلا برامج انتخابية أعلنت ولا تحالفات ومساومات انتخابية اتضحت معالمها. وغنى عن البيان أن معارضة بمثل هذا الضعف وعدم الجمهورية ليس لها أن تقنع / تجبر النخبة على التعامل مع مطالبها بجدية. إلا أن ضعف قوى المعارضة يسببه أيضا وقد أشرت إلى هذا فى مقالات سابقة عجزها عن: 1 تطوير نقدها لأداء الحكومة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليتسم بمزيد من الموضوعية وليربط على سبيل المثال بين تعثر الإصلاح الديمقراطى وشيوع الفساد وغياب العدالة الاجتماعية. 2 بلورة بدائل سياسات محددة للسياسات الحكومية وصياغة رؤية إستراتيجية تتجاوز العموميات وذات إطار زمنى واضح لكيفية الانتقال نحو الديمقراطية حال نجاح المعارضة فى الدفع باتجاهها. 3 إظهار التمايزات بين قوى المعارضة إنْ لجهة الملفات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى أو فيما خص قضايا المواطنة ودور الدين فى السياسة والحياة العامة. نزوع المعارضة، ومعها العديد من النشطاء والمثقفين، للتأكيد على الأجندة المشتركة الجبهة الواحدة ضد نخبة الحكم والنهج التوافقى ليس بكافٍ فى هذا الصدد ويتجاهل احتياج المواطنين لإدراك المواقع المختلفة للوفد والإخوان والغد والجمعية الوطنية والدكتور البرادعى. ذات الجوهر السلبى أضحى يعبر عنه توظيف قيادات المعارضة لمقولات من شاكلة «دمج جميع القوى فى الحياة السياسية» و«حق الجميع فى المشاركة» و«رفض استبعاد القوى الموجودة على الأرض طالما التزمت بقواعد التعددية» وغيرها. فمثل هذه المقولات، وهى لا غبار عليها بصورة مبدئية إذ تعبر عن جوهر ديمقراطى أصيل، تنقلب إلى أداة تجهيل حين توظف لتغييب القضايا الخلافية بين قوى المعارضة أو حال استخدامها لتقديم تبريرات شديدة السطحية لانفتاح الليبراليين على اليسار وتقارب أنصار العلمانية مع الحركات الدينية. والحصيلة هى فضاء عام به من الاجترار المستمر لعموميات حديث التغيير والديمقراطية ما أصبح يكفى المصريين لأعوام كثيرة قادمة، وحياة سياسية يتسم بها فعل المعارضة الحزبية وغير الحزبية بالفوضى وغياب الوضوح الإستراتيجى وعلى نحو مؤلم. فيا لسعادة نخبة الحكم بمعارضة هكذا ويا لدقة اختيارها بتجاهل المعارضة وفوضى حديثها والثبات على اختياراتها دون تباطؤ أو تراجع.