ما الذى يدفع رجلا عجوزا أو سيدة مسنة لوضع صورة جمال عبدالناصر على حائط منزله الريفى خصوصا فى الصعيد؟! وما الذى يدفع بعض شباب الجامعات لرفع صوره وشعاراته فى كثير من المظاهرات الآن؟! هل لأن عبدالناصر كان صعيديا، أم لأن عينيه كان بهما بريق ولا يستطيع أحد أن ينظر فيهما مباشرة، أم لأن عبدالناصر «سحر» الجميع خصوصا الفقراء وضحك عليهم بالشعارات ودغدغ عواطفهم بمعسول الكلام كما يحلو للبعض أن يقول؟! سؤال قد يبدو مكررا للبعض، لكنه لا يزال بلا إجابة حقيقية حتى الآن لدى كثيرين. صعوبة السؤال أن عبدالناصر الذى يعتبر المسئول الأول عن هزيمة وكارثة يونيو 1967، والمسئول عن التعذيب وغياب الديمقراطية وقمع الحريات، ما يزال يحتل مكانة كبيرة فى قلوب المصريين والعرب، رغم أن السادات صاحب انتصار أكتوبر والذى دشن مرحلة التعددية الحزبية لا يحظى بنفس المكانة. محبو وعاشقو عبدالناصر لديهم مليون سبب لتفسير هذا الحب الشعبى الجارف منها أنه انحاز للبسطاء والفقراء ووضع يده على مفاتيح الدور المصرى فى المنطقة. والكارهون لعبدالناصر والثورة يلصقون به وبها كل الموبقات التى حدثت فى مصر والمنطقة العربية، بل والعالم لدرجة تدفع بعضهم لكى لا يرى فى مشروع السد العالى سوى أنه منع وصول الطمى للأرض، وينسون قبلا أنه حمى مصر لسنوات طوال من كارثة الجفاف والتصحر. لندع هذا الحديث الجدلى حول شخصية عبدالناصر، وهل ما حدث فى 23 يوليو عام 1952 كان ثورة أم انقلابا أم «حركة مباركة».. لكن السؤال الذى ينبغى أن يشغلنا ضمن أسئلة كثيرة أخرى هو: هل النقاش حول ثورة يوليو وزعيمها هو حديث فى الماضى ينبغى أن يتوقف فورا أم أنه مفيد ونحن نتحدث عن المستقبل؟! يستطيع المرء أن يتفهم سر غضب الكثيرين وهم يرون المجتمع منقسما على سياسات حدثت منذ نحو 60 عاما ويعتقدون أن ذلك يمثل عقبة هائلة أمام أى حديث جاد عن التطور والتقدم.. ولا يستطيع المرء أن يتفهم سر إصرار بعض «المغالين» الذين يريدون استنساخ قرارات وسياسات حدثت منذ عشرات السنين لتطبيقها فى واقع مختلف ومتغير. المؤكد بالنسبة لى على الأقل أن سياسات عبدالناصر ليست شيئا من الماضى وحتى لا يتهمنى البعض بأننى «درويش ناصرى» أسارع إلى القول إنه لا يمكن لعاقل إذا كان يتحدث عن الإصلاح والتقدم أن يبرر أو يدافع عن التعذيب ومراكز القوى والحزب الواحد والمحسوبية وجميع الخطايا التى وقعت فيها الثورة. لكن اختزال الثورة فى هذه الأشياء فقط هو ظلم فادح لها ولقائدها والأهم للشعب. راجعوا تمسح الحكومة فى الثورة وقائدها وحتى أغانيها. عبدالناصر لم يخترع الوطنية، أو القومية العربية، ولم يكن أول من طالب بالعدالة الاجتماعية لكنه أول من طبق ذلك فى العصر الحديث فى مصر. الكثيرون تحدثوا وطالبوا.. لكنه طبق نظاما ما يزال بعضه يمثل ركنا أساسيا فى الاقتصاد المصرى. المطالبة بالعدالة الاجتماعية وأنصاف الفقراء ليس شيئا من الماضى، والمطالبة بحد أدنى من التنسيق العربى ليس شيئا من الماضى. ومحاربة أى عدو على الحدود الشرقية ليس شيئا من الماضى.. التعليم والعلاج بالمجان ليس شيئا من الماضى. ويا أيها الكارهون لعبدالناصر وللثورة.. طبقوا هذه الأفكار على الأرض، ولا تسموها ناصرية أو اشتراكية.. سموها ما شئتم.. لكن فقط طبقوها أولا، وقتها سيضع الجميع صوركم على جدران بيوتهم الطينية. تحية إلى ثورة يوليو فى عيدها.. وتحية إلى زعيمها جمال عبدالناصر.. وتحية إلى كل المدافعين «الفعليين» عن حق هذا الشعب فى حياة حرة وكريمة.