وكأن أكثر من نصف قرن من الزمن لم يمر على ثورة 23 يوليو، أو لم يرحل رجالها وزعيمها. فقد عاد صوته ظهر أمس الأول مرة أخرى مدويا فى وسط البلد. عاد جمال عبدالناصر ليسأل بسخرية: «الفقرا دول مالهمش نصيب فى الدنيا، نصيبهم فى الآخرة بس؟ هم عايزين نصيب صغير فى الدنيا ويدوكم قصاده نصيبا فى الجنة». يبتسم الريس ويبتسم من كانوا أمامه قبل ما يقرب من خمسين عاما فى شريط مصور كان يعرض على الحائط فى قاعة شركة النصر للتصدير والاستيراد بشارع طلعت حرب. فى قاعة صغيرة بمبنى الشركة كان عبدالناصر حاضرا بصوته، وصورته يحتفل مع موظفيها الذين حفرت سنوات عملهم خطوطا على وجوههم، لا تخفيها الابتسامات العريضة، ولا القبلات بين رجالها ونسائها الذين تزاملوا عمرا فى مشهد رائع، قد لا يكتب لأناس كثيرين أن يروه. ببساطة لأنه نادر إلا بين مثل هؤلاء الناس، وفى مثل هذه الشركة، ومثلهم، ومثلها لا يتكرر كثيرا. الموظفون الذين لم يلتقوا منذ ما يزيد على عشرين عاما جاءوا للاحتفاء بكتاب «تجربة للتاريخ» أصدره أول رئيس للشركة فى الستينيات «محمد غانم» رجل المخابرات الذى كان البعض يطلق عليه صبى عبدالناصر، جاء به ليدير شركة خاصة بعبدالناصر يهرب بها أمواله للخارج. ولم يكن يعلم هؤلاء أن الشركة هذه ماهى إلا ستار يديره رجل المخابرات لمحاربة الوجود الإسرائيلى فى أفريقيا. وإنها كانت ذراعا مصرية لمساعدة حركات التحرر الوطنى فى أفريقيا. وكانت الشركة تنقل الأسلحة غربية الصنع التى استغنت عنها مصر بعد صفقة الأسلحة التشيكية إلى المناضلين الأفارقة فى سرية تامة. وقد ردوا لمصر الجميل وقطع رؤساء هذه الحركات التحررية بعد أن جلسوا على مقاعد الحكم علاقتهم مع إسرائيل بعد نكسة 1967. «اللى بيقول إن الثورة أهدرت أموال مصر على مساندة حركات التحرر فى أفريقيا لا يفهم فى السياسة ولا فى البيزنس» يقول محمد غانم. «ما صرفناه جنيناه فى مواقف الدول فيما يتعلق بحصص مصر من المياه. ولم نتعرض لأى مشاكل تخص مياه النيل. كما أن كل ما اشتريناه من المبانى كفروع للشركة فى الدول الأفريقية بتراب الفلوس يعود على الشركة بالآلاف من الدولارات لأنها تؤجر هذه الفروع الآن. وكذلك كنا نصدر للسوق الأفريقى كل منتجات مصانعنا، ونحصل منه على المواد الخام». لم يكن صوت عبدالناصر وحده فى بداية الاحتفال هو الذى أعاد الحضور إلى رائحة الستينيات، ولكن حكايات وقصص ومشاهد العزة التى صنعها رجال هذه الزمن هى ما أعادتنا لها. من ذلك الزمن جاء محمد فايق وزير الإعلام الأسبق فى عهد عبدالناصر ومدير مكتبه للشئون الأفريقية ليشارك موظفى الشركة الاحتفاء بمؤسسها، وبالتاريخ الذى يرويه فى كتابه الذى تصدر غلافه عنوان «أسرار لم تنشر بعد من ملفات الصراع الاقتصادى والسياسى فى حقبة الستينيات». وقال محمد فايق: «إن محمد غانم ذلك الضابط الشاب الذى كان يعمل حديثا فى المخابرات استطاع أن يجند ضابطا فى الجيش البريطانى أيام مفاوضات الجلاء مع بريطانيا. وهذا العميل الذى أصبح يعمل لصالح مصر كان مكلفا بنقل تقارير المخابرات البريطانية حول رأيها فى المفاوضات مع عبدالناصر. وكنا نرسل لعبدالناصر بهذه التقارير أولا بأول قبل كل جلسة مفاوضات، وكان هذا مهما جدا لسير المفاوضات». وكانت شركة النصر بالمرصاد لشركة ديزينكوف الإسرائيلية التى كان هدفها مواجهة شركة النصر فى جمهوريات أفريقية الاستوائية. ويتذكر غانم «فى إحدى السنوات كانت بلدية العاصمة الغينية أكرا تعلن عن إيجار لوحة إعلانية كبيرة فى أشهر ميادينها عن منتجى الإطارات. فتقدمت شركة النصر، ولكن الشركة الإسرائيلية زايدت على السعر، وزاد التنافس بين الشركتين إلى أن وصل إلى أرقام فلكية. جعلت وسائل الإعلام الأفريقية تعتبر أن الفائز باللوحة الإعلانية قد حقق انتصارا سياسيا. فما كان من رئيس غانا نكروما صديق عبدالناصرإلا أن يصدر قرارا بتوقيع العقد مع شركة النصر. وعندما استقلت روديسيا الشمالية (إحدى دول المستعمرات البريطانية فى شرق أفريقيا) وسميت «زامبيا» كانت مصر أول دولة تسارع بالاعتراف بها. وذهب حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية للتهنئة، وفتح فرعا جديدا لشركة النصر فى العاصمة لوزاكا. وكان وكيل وزارة الاقتصاد فى زامبيا إنجليزيا نظرا لغياب الكوادر الفنية من أهل البلد. وقد طلب محمد غانم استيراد النحاس الذى تحتاجه المصانع الحربية فى مصر من زامبيا مباشرة بدلا من استيراده عن طريق وسيط أوروبى. إلا أن المسئول البريطانى رفض لأن الشركات البريطانية كانت تشترى طن النحاس من زامبيا بنحو 600 جنيه استرلينى وتعيد بيعه بسعر 800 جنيه محققة أرباحا طائلة. واضطر رئيس زامبيا كينيث كاوندا فى ذلك الوقت إلى الاعتذار للوفد المصرى لعدم تلبية طلبه. وقال للوفد إنه ليس لديه الكفاءات المناسبة التى تؤهله للقيام بتأميم مناجم النحاس مثلما فعل عبدالناصر فى قناة السويس لأنه لايملك جرأته. وماهى إلا سنوات حتى استطاع الرئيس كاوندا أن يسمح بتصدير النحاس لمصر بدون الوسيط البريطانى. ويبدو فى حكايات الرجل كثيرا مما يرد به محمد غانم على من تحدثوا طويلا عن سطوة أصحاب النفوذ فى البلد فى تلك الأيام. وهل أكثر من نفوذ المشير عبدالحكيم عامر وزير الحربية؟. «جاءنى من طرفه أحد المتقدمين للعمل فى الشركة. وما أن قدم ذلك الشاب طالب الوظيفة كارت توصية يحمل اسم المشير عامر لى وأنا رئيس الشركة حتى قمت بتمزيق الكارت لألقنه درسا فى أن الشركة لا تعين بالواسطة. وأصدرت تعليماتى للجنة التعيينات باستبعاد اسمه تماما من التعيين». ولايبدو غريبا على موظفى هذه الشركة فى ذلك الزمن أن يعتبروا أن مستهدفا مثل زيادة تصدير محصول الأرز الذى أعلنه وزير التخطيط جمال سالم فى الستينيات ما هو إلا تكليف وطنى، وليس تأدية لمهمة وظيفية. فلما كان الأفارقة لايتذوقون نوعية الأرز المصرى ولا يعرفون طريقة طهيه. وتعودوا على الأرز المغلى مثل البسمتى. لم تجد الموظفات فى فروع الشركة، وزوجات الموظفين ببعض الدول الأفريقية وسيلة سوى إقناع بعض مقدمى البرامج التليفزيونية فى هذه الدول بتقديم فقرات عن طريقة طهى الأرز المصرى. وقامت بعض زوجات الموظفين بتقديم هذه الفقرات بأنفسهن إلى أن بدأت الأفريقيات يجدن طهى الأرز المصرى، ونجحت الشركة فى تجاوز النسبة المستهدفة لزيادة صادرات الأرز.