"إنّ الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية". إنه الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري صاحب الموسوعة الشهيرة والأضخم في التاريخ المعاصر "اليهود واليهودية والصهيونية" التي أعادت ترتيب المفاهيم السياسية المعاصرة من جديد. أسطورة المسيري العملاق، هو أكد كبار كتاب ومفكري مصر العظام الذي أفنوا حياتهم من أجل إيضاح الحقيقية والحق مهما كلفه ذلك عناء ومشقة وتهديد وأحيانا الإيذاء، فتاريخ المسيري يحكي عن أسطورة علمية ثقافية بشرية، نجحت في إعادة تشكيل الكثير من العقول والمفاهيم السياسية والاجتماعية، حمل علي عاتقه فضح الصهيونية والإمبريالية العالمية، والظلم والكبت الذي تقوده الأنظمة القمعية، وهو الأمر الذي دفعه للخروج إلي الشارع في نهاية حياته منسقا لحركة كفاية ليطالب بالتغيير ورفض القوانين الاستثنائية والتوريث، مما عرضه للاعتداء البدني وهو في سبعينيات عمره فضلا عن مرضه العضال. رحلة فكرية "أنا ماركسي على سنة الله ورسوله"، هكذا فسر المسيري طريق تفكيره، فالبعض يراه كاتبا إسلاميا خالصا في "اليهودية واليهودية والصهيونية" أو "الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى"، ويراه البعض يساريا مغرقا في يساريته في "الجمعيات السرية في العالم" أو "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، ولكن المتفحص أكثر يرى الحقيقة أن المسيري بمراحل متعددة في حياته فسرها في كتابه الشهير "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار: سيرة غير ذاتية غير موضوعية". وبمقولته الشهيرة "المثقف.. لابد أن يكون في الشارع" تحول المسيري المثقف إلي عضو فاعل في الشارع السياسي المصري، بل ومنسقا عاما في كفاية في 2007، وخرج إلي الشارع ضد التعديلات الدستورية التي وصفها الخبراء والسياسيون في هذا التوقيت بالتعديلات "الظالمة وغير المبررة"، بل واعتدت عليه أجهزة الأمن واعتقلوه ورغم ذلك استمر حتى وفاته مثالا للمثقف المناضل الذي يدافع عن فكرته مهما كلفه ذلك. مثقف مناضل لم يكن يوما من مفكري الصالونات بل غاص في أزمات المجتمع ليحلل ويعالج مشاكل وطنه في أولويات فكره، قائلا في مقالته "الحجاب بين الدين والمجتمع"، "لابد أن أبدأ هذا المقال بتأكيد أهمية الحوار بين أبناء الوطن الواحد وإلا سقطنا كلنا في صراع يستنزف قوانا، ومن هنا الإصرار على التغيير والإصلاح الدستوري وإطلاق حرية تأسيس الأحزاب وإلغاء الأحكام العرفية حتى يمكن لكل ألوان الطيف السياسي أن تعبر عن الإرادة الشعبية دون خوف من البطش الأمني ومن خلال حوار ديموقراطي سلمي، ولكن هذه الحرية، شأنها شأن أي شكل آخر من أشكال الحرية، ليست مطلقة، إذ أن أي تيار أو تنظيم سياسي يريد أن يشارك في العملية السياسية الديموقراطية عليه أن يلتزم بقواعد اللعبة، وبتداول السلطة، ولا يحاول أن يجلس على العرش مدى الحياة وكأنه إمبراطور الصين العظيم. ولذا من الضروري أن تُسن القوانين وتوضع الضوابط والآليات التي تضمن التزام الجميع بهذه القواعد". وفي فجر الخميس 3 يوليو 2008 رحل عبد الوهاب المسيري، بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، رحل وتاركا خلفه المئات من الكتابات والمجلدات، الفكرية والسياسية والاجتماعية وقصص الأطفال، رحل وترك تلامذته وأصدقائه، رحل ولا تزال مصر تعاني.