سيقولون: كيف يكون مجهولًا، وهو ملء الأسماع والأبصار فى الليل والنهار..؟ ونقول: نعم، هو مجهول، وأى مجهول...؟ فقد تناوب عليه بعض الأنصار والأعداء ليطمسوا جلّ الحقيقة، من أجل تصفية حسابات سياسية ظرفية ليس غير، على منصات «التواصل الاجتماعى» الآن وغيرها. أعداء عبد الناصر كُثر، وأنصاره كذلك. وهذا أمر مفهوم، فقد حرثَ الأرض العربية، من المحيط إلى الخليج، حرثًا، منذ مطلع خمسينيات القرن المنصرم، وأعاد تقليبها وزراعتها بنبت جديد. لم يكن هذا من صنعه الشخصى، وإن كان لشخصيته (الكارزمية) دور كبير. فقد كان لخطابه السياسى والثقافى فعل السحر فى أرض عطشى، وفى حقل قاحل لأمد بعيد. كانت مصر العربية فى البداية بمثابة «بؤرة التفاعل»، حيث جرّب قادة ثورة 23 يوليو من الضباط 1952، بزعامته، فكرهم الجديد، وكان فكرهم آنذاك تجسده (المبادئ الستة)، وفى مقدمتها التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى، وشيئًا فشيئًا أُضيف إليها (صوت العرب) انطلاقًا من فكرة «القومية العربية». • • • كان تحرير مصر من بقايا الوجود البريطانى الاستعمارى عام 1954 رمزًا قويًا، ومعه كانت مقاومة النفوذ الاستعمارى الغربى، ممثلًا فى (حلف بغداد) منذ 1955، أمرًا مزلزلًا. وكان تأميم (قناة السويس) فى 1956 حدثًا جللًا، وضع فى الصدارة شعار (السيطرة على أصول الثروة الوطنية)، وكذلك كان الصمود أمام قوى «العدوان الثلاثى» - البريطانى الفرنسى الإسرائيلى - على مصر، وعلى بورسعيد بالذات، عام 1956، علامة لا تخطئ على نهج جديد فى التعامل على الساحتين العربية والدولية. كما كان تأميم المصالح الأجنبية فى قطاع المال والبنوك، منذ أوائل ثم منتصف الخمسينيات، مقدمة لمحاولة بناء اقتصاد وطنى «ذاتى التمركز». وقد أُعطى القطاع الخاص فرصته لمحاولة المشاركة فى بناء الاقتصاد الوطنى الجديد، فلم يقم بما عُقدت عليه الآمال، فكان مشروع «برنامج السنوات الخمس للتصنيع» منذ 1959 نتيجة لازمة. وكانت الصيحة الكبيرة بقرارات تأميم الشركات الكبرى والكبيرة من القطاع الخاص منذ 1961 و1962 وما بعدها، ومعها قرارات استكمال (الإصلاح الزراعى) الذى بدأ بتحديد الملكية القصوى منذ وقت مبكر جدًا، فى التاسع من سبتمبر 1952. كل ذلك إلى جانب قرارات وضع الحد الأدنى للأجور، وساعات العمل اليومية، إيذانًا بفتح الباب أمام عالم اجتماعى جديد، عبّر عنه «الميثاق الوطنى» فى مايو 1962، بإقامة كيان اجتماعى جديد قوامه تحالف «العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية». ثم كان وضع وبدء تطبيق «الخطة الخمسية الأولى (1959-1960 / 1964-1965)» لبِنة جديدة فى صرح اقتصادى جديد، قوامه الزراعة المكثفة، واستصلاح الأراضى («مديرية التحرير» و«الوادى الجديد»)، والتصنيع على نهج (الإحلال محل الواردات) فى الصناعة البازغة لقطاع رائد وقائد للاقتصاد الوطنى الجديد، القائم على «القطاع العام»، مجسّدًا سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج. • • • لكن – وآه من «لكن» هذه – كان بعض السوس ينجز فى البناء العظيم. فقد كان قيام ثورة 23 يوليو على يد «الضباط الأحرار» كنخبة النخبة من العسكريين، إذا صحّ التعبير، إيذانًا بتغلغل ما فى الحياة المدنية، وفى جهاز الدولة، وفى شركات القطاع العام، وفى الأصول المؤممة من الشركات والمؤسسات فى مختلف المجالات، وفى بعض المرافق التى فُرضت عليها الحراسة مثل (المبانى السكنية الفاخرة) وغيرها. ترافق ذلك مع أمرين مهمَّيْن: • ما يشبه تحويل الاقتصاد الوطنى المؤمم إلى ما يمكن أن يقترب من نموذج «رأسمالية الدولة» لا (الاشتراكية) كما قيل، حتى يمكن أن يقال إنه منذ عام 1965 تقريبًا، توقفت «قوة الدفع الثورى» أو تباطأت، فى إيقاع ملحوظ. • تعاظم نفوذ «بعض من النخبة»، حتى وصل الأمر إلى تهميش دور القائد السياسى، والزعيم الكارزماتى «جمال عبد الناصر» نفسه، لحساب ما أسماه جمال عبد الناصر بعد العدوان الإسرائيلى فى يونيو 1967 «مراكز القوى». وكان ما كان صبيحة الخامس من يونيو ذاك، ليحدث ما أسماه عبد الناصر أيضًا، بعد ذلك، «النكسة». بعد عدوان ونكسة 1967، استعاد جمال عبد الناصر قوته وسلطته، وأقام بناءً سياسيًا وعسكريًا جديدًا، وليقود مرحلة «إزالة آثار العدوان» (يونيو 1967 - سبتمبر 1970)، مع استمرار حملة التعمير لمدن قناة السويس، بتمويل وطنى ضخم، حتى وافته المنيّة فى 28 سبتمبر 1970. وكانت عملية «إزالة آثار العدوان»– ابتداءً من بناء جيش جديد، بأفراد جدد، وتسليح جديد أيضًا، وخاصة من سلاح الدفاع الجوى ومضادات الدبابات بصواريخ محمولة على الكتف: «سام 6 وسام 7» (مما أنتج ظاهرة «عبد العاطى صائد الدبابات الإسرائيلية» فى حرب أكتوبر 1973)، إلى جانب الطائرات المقاتلة وتجربة الدفاع عن «عمق الوطن» بأسلحة سوفيتية فعالة حديثة، حتى لا يتسلل العدوّ فيفعل كما فعل بدم بارد فى الغارتين على عمال مصنع كيماويات «أبو زعبل»، وعلى أطفال مدرسة «بحر البقر» فى محافظة الشرقية. حينذاك اكتملت مهمة عبد الناصر حيًا وميتًا، حتى جاءت «حرب أكتوبر» تتويجًا لجهده، بعد تجارب «عبور المانع المائى للقناة»، وهدم تحصينات «خط بارليف» بمدافع المياه، وغير ذلك كثير. • • • بعد رحيل عبد الناصر، تهيأ الظرف المُواتى لمرحلة جديدة (1971-1981)، فكان نهج مغاير تمامًا، اقتصاديًا واجتماعيًا فيما يسمى (الانفتاح الاقتصادى)، وسياسيًا أيضًا (بالقول إن «حرب أكتوبر» آخر الحروب)، وإن 99% من «أوراق اللعبة» فى يد «الولاياتالمتحدةالأمريكية». وحدثت متغيرات سياسية داخلية جذرية، منها صعود نفوذ بعض الجماعات السياسية، التى قام عدد من ممثليها ب«حادث المنصة» يوم السادس من أكتوبر 1981. فيا لها من متغيرات! وانطلق أعداء عبد الناصر الكُثر لتصفية حساب قديم، ابتداءً من «جرحى الثورة» – ثورة يوليو 1952 – وانتهاءً ببعض ممثلى البؤر الجديدة المرتبطة بمصالح اقتصادية واجتماعية مستجدّة، وكذا ممثلى الجماعات السياسية التى وجدت فرصتها ماثلة للتنفيس عن غضب مكبوت. وقال البعض هنا (عبد الناصر المفترى عليه «بفتح الراء»، والمفترِى علينا «بكسر الراء»). أما الأنصار فإن بعضهم تعامل مع الأمر بالفهم الخاطئ للحديث (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)، وما فهموا أن نصرته كظالم إنما تعنى مساعدته على ألّا يكون ظالمًا. وكانت النتيجة فى الحالتين طمس صورة «عبد الناصر الحقيقى»، وبناء صورة متخيّلة لعبد الناصر من عندهم. ولذلك قلنا إنه «عبد الناصر المجهول» من الطرفين. فمتى وكيف نتعرف على صورة «عبد الناصر الحقيقى»..؟ هذا هو السؤال. أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية