نُشرت استراتيجية الأمن الأمريكية الترامبية فى نوفمبر 2025، أى بعد نحو تسعة أشهر من تولى الرئيس ترامب السلطة فى 20 يناير 2025. وكان يفترض إعداد هذه الاستراتيجية أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية ثم بلورتها عقب فوز الرئيس ترامب فى نوفمبر 2024، لتكون جاهزة لإعلانها فى أول خطاب للاتحاد الأمريكى يلقيه الرئيس فى فبراير 2025. ويفترض فى الرئيس ترامب أن يكون قد اكتسب خبرات العمل من خلال المؤسسات الأمريكية أثناء رئاسته الأولى 2017-2021، باعتبارها أول مرة له للعمل من خلال المؤسسات الأمريكية. ولكن ما حدث كان غير ذلك تمامًا. لقد فضل ترامب أن يستمر بالعمل وفق قاعدة التجربة والخطأ التى تتناسب مع تفكيره وشخصيته وأسلوبه فى اتخاذ القرارات وفق رؤيته الشخصية وفريق العمل معه والذى اختاره بنفسه بما يتفق مع رؤيته وبما لا يمثل معارضة أو مخالفة لمعظم قراراته الداخلية والخارجية. لذا ظل خلال الأشهر التسعة الأولى من حكمه للمرة الثانية يطبق ما وعد به فى حملته الانتخابية من تحقيق إعادة أمريكا عظيمة والرخاء للشعب الأمريكى باتباع سياسة اقتصادية حمائية بفرض أعلى رسوم جمركية لحماية المنتجات الأمريكية ولم يمانع فى تأجيل بعضها أو إلغاء البعض الآخر عندما اتضح ضررها الكبير على الاقتصاد والمستهلك الأمريكى ولجوء الدول المضارة للمعاملة بالمثل. ووعده بتحقيق السلام فى العالم عن طريق القوة الأمريكية وإنهاء الحرب الأوكرانية فى ساعات أو أيام أو أشهر قليلة وعندما اصطدم بالواقع وتعقيداته واختلاف حلفائه الأوروبيين معه، اعترف بأنه لم يكن يتصور أن الحرب الأوكرانية بهذه الصعوبة. هذا إلى جانب تعقيدات أزمات الشرق الأوسط والعلاقات الأمريكية مع الصين وروسيا، ودول الاتحاد الأوروبى أقرب الحلفاء للولايات المتحدةالأمريكية. وعندما لم يحقق ترامب إنجازات يعتد بها باتباعه العمل بقاعدة التجربة والخطأ، عاد إلى التقليد الأمريكى بأن يصدر كل رئيس فى بداية رئاسته خطة أو استراتيجية للسياسة الأمريكية فى الداخل والخارج تتضمن الخطوط العريضة للعمل مع الحلفاء والمنافسين والمناوئين والأعداء، على قاعدة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية أقوى دولة فى العالم اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، ولم يعترف ترامب بأن الأوضاع الدولية وتوازنات القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية على المستويين الدولى والإقليمى قد شهدت تغيرات أساسية وكبيرة تمثل تعددًا فى القوى الدولية ونهاية لانفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بالقيادة الدولية. • • • بالرغم من ذلك، فقد اتسمت استراتيجية الأمن الأمريكية الجديدة بصبغة ترامبية جعلتها بمثابة استراتيجية وقتية تخضع للتعديل والتبديل فى معظم بنودها وعدم إمكانية تحقيق بنود أخرى على ضوء معطيات الواقع سواء على المستوى الدولى أو على مستوى مناطق العالم المختلفة. بدأت الاستراتيجية الجديدة بأن إدارة ترامب استطاعت خلال تسعة أشهر فى الحكم استعادة القوة الأمريكية فى الداخل والخارج، وتحقيق السلام والاستقرار فى العالم وهذا ما لم يسبق تحقيقه فى أى إدارة أمريكية سابقة. والحقيقة أن هذا لم يتحقق، فقد اضطر ترامب إلى أن يلتقى مع الرئيس الروسى بوتين ويستجيب لمطالبه الأساسية لتسوية الحرب الأوكرانية وممارسة ترامب كل أنواع الضغوط على أوكرانيا والدول الأوروبية التى ترفض تقديم كل هذه التنازلات لروسيا تحسبًا لمخاطر مستقبلية على الدول الأوروبية خاصة دول بحر البلطيق الثلاث ليتوانيا، لاتفيا، وإستونيا، وتصاعدت الحرب الأوكرانية. الحديث عن تسويتة ثمانية نزاعات أمر غير واقعى، فقد عادت الاشتباكات العسكرية بين تايلاند وكمبوديا، وبين رواندا والكونجو الديمقراطية، ولم تلتزم إسرائيل بأى وقف لإطلاق النار فى سوريا ولبنان وقطاع غزة وتمارس كل أنواع الانتهاكات فى الضفة الغربية، ولم تتراجع إيران عن حقها فى تخصيب اليورانيوم وإعادة تشغيل كل مفاعلاتها النووية بكامل طاقتها، ولم يتم إنهاء الحرب فى السودان، ولا تحقيق إنجاز فى حل الأزمة اليمنية ولا الأزمة الليبية. وأبعد من ذلك، فقد أعلن ترامب ما يشبه الحرب على فنزويلا والعمل على حصارها عسكريًا واقتصاديًا لإسقاط حكم مادورو، وهو ما أثار غضبًا شديدًا فى أغلبية دول أمريكا اللاتينية ودفع رئيسة المكسيك إلى طلب تدخل الأممالمتحدة لحماية سيادة واستقلال فنزويلا.
إذًا.. أين هو السلام العالمى والاستقرار الذى تحقق؟ إعطاء استراتيجية ترامب أهمية خاصة لمنع الهجرة غير القانونية واللجوء إلى نشر القوات المسلحة الأمريكية فى عدة ولايات لمنع دخول المهاجرين غير القانونيين وإصدار أوامر رئاسية بعدم دخول رعايا نحو أربعين دولة وتجاهل أن معظم ولايات الجنوب الأمريكى تعتمد بدرجة كبيرة فى مواسم الزراعة والحصاد والأعمال البسيطة على المهاجرين غير القانونيين القادمين من دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا لرخص أجورهم وعدم الالتزام بتأميناتهم الصحية والاجتماعية، ويكاد يكون من الصعب جدًا المنع التام للهجرة غير القانونية لما يلقاه هؤلاء المهاجرين من ترحيب من أصحاب الأعمال الأمريكيين وتغاضى حرس الحدود الأمريكى عن دخولهم. كما أن المجتمع الأمريكى ذاته عبارة عن مجموعات متنوعة من المهاجرين، وماذا سيتم خلال مباريات كأس العالم للمشجعين لفرقهم من الأربعين دولة المفروض حظر على مواطنيها؟ وتتضمن الاستراتيجية الجديدة جعل القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية الأقوى فى العالم وعدم السماح بتفوق قوة أخرى عليها، وفى نفس الوقت تطالب الحلفاء الأوروبيين وغيرهم بزيادة إنفاقهم على الدفاع ليصل إلى 5% من إجمالى الناتج المحلى لكل دولة أوروبية من 2%، ومطالبة من يطلب حماية أمريكية أن يتكفل بالنفقات. وقد أحدث وصف أوروبا بالتراجع الحضارى وفرض قيودًا على حرية الخطاب وإظهار الضعف، غضبًا شديدًا حتى من أقرب الحلفاء وأكثرهم اعتمادًا على القوة النووية الأمريكية مثل ألمانيا، حيث قال المستشار الألمانى أنهم ليسوا فى حاجة إلى نصائح من أحد، مع إصرار الدول الأوروبية على عدم الموافقة على خطة ترامب للسلام فى أوكرانيا. تتحدث الاستراتيجية الجديدة عن إحياء مبدأ مونرو الذى أصدره الرئيس الأمريكى باسمه فى ديسمبر 1823، أى منذ نحو مائتى عام حدثت خلالها تغيرات أساسية فى دول أمريكا اللاتينية ولم يعد ممكنًا جعلها مجرد حديقة خلفية للولايات المتحدةالأمريكية كما أرادها الرئيس مونرو عندما كانت كلها دول حديثة الاستقلال عن السيطرة الأوروبية وكان النموذج الأمريكى مثالًا لها. أما الآن، فقد انتشر الوجود الاقتصادى والاستثمارى والعسكرى الصينى والروسى خاصة فى دول أمريكا اللاتينية اليسارية إلى جانب دول الاتحاد الأوروبى، ولم يعد ممكنًا كما تتضمن الاستراتيجية الجديدة إبعاد كل هذه الدول عن دول أمريكا اللاتينية التى يخشى معظمها إن لم يكن كلها عودة السيطرة الأمريكية عليها. وتعد التحركات العسكرية الأمريكية ضد فنزويلا وسيطرتها على بحر الكاريبى، وفرض الحصار لإسقاط نظام الحكم فيها أكبر عمل أمريكى استفزازى لجميع دول أمريكا اللاتينية ولا يبشر بأى نجاح لمسعى ترامب بإعادة العمل بمبدأ مونرو فى القرن الحادى والعشرين. وتنص الاستراتيجية الجديدة على أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد تحظى بنفس الأولوية الأمريكية التى سبق أن حظيت بها لعدة عقود لعدم الحاجة الأمريكية لبترولها وغازها، وتراجع منافسة القوى الأخرى للمصالح والوجود الأمريكى فيها، والتراجع لانتشار الحروب والأزمات، والتعاون الأمريكى مع الحلفاء فى منطقة الخليج وإسرائيل. وتعزيز التجارة والتعاون الاقتصادى والاستثمارى الأمريكى مع دول المنطقة فى كل المجالات خاصة الطاقة النووية والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، والعمل على توسيع الاتفاقات الإبراهيمية فى الدول العربية والإسلامية. • • • هذا التوجه الأمريكى ليس جديدًا، فقد أثير فى عهد الرئيس أوباما وغيره، ومع ذلك بقيت القواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة، وقامت بدور كبير ومهم للغاية لحماية ودعم إسرائيل أثناء عملية طوفان الأقصى الفلسطينية 7 أكتوبر 2023 وحربها مع إيران ولتحييد موقف دول المنطقة طوال حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، والتدخل العسكرى الأمريكى المباشر ضد إيران وضد الحوثيين فى اليمن. لذا سيظل لمنطقة الشرق الأوسط أهمية كبيرة للمصالح الأمريكية نظرًا لأهميتها الاستراتيجية عالميا، ومنافسة الصين وروسيا للوجود الأمريكى فيها، إلى جانب استمرار الأزمات المشتعلة والدور الإسرائيلى الأمريكى فى عدد كبير منها. وقد ثبت أن إسرائيل ما تزال فى حاجة شديدة إلى الحماية الأمريكية عسكريًا وسياسيًا رغم الادعاء بغير ذلك. الحقيقة أن الاستراتيجية الأمنية الترامبية الجديدة تحتوى على العديد من المتناقضات والأهداف غير القابلة للتحقيق، وتنطوى على طرفى نقيض ما بين الاتجاه الفعلى للعزلة وادعاء الانفتاح على العالم، فى آن واحد.