تهدف استراتيجية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لاستعادة الهيمنة الأمريكية فى أمريكا اللاتينية، كما تهدف لتعديل الحضور الأمريكى فى العالم.. تصريح هو الأصدق والأوقع للبيت الأبيض بعد ساعات قليلة جدًا من إصدار الإدارة الأمريكية استراتيجية الأمن القومى الجديدة فى 4 ديسمبر الجارى. أمريكا اللاتينية جاءت الاستراتيجية التى لاقت ترحيبًا فى الأوساط السياسية الأمريكية، لتكشف حقيقة المشهد الذى يحدث فى فنزويلا والتصعيد الأمريكى الأخير ضدها. وتعد أمريكا اللاتينية الفناء الخلفى للولايات المتحدة، وتمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومى، وهى المنطقة ذاتها التى شهدت طوال السنوات الماضية تنامى النفوذ الصينى بصورة ملحوظة. كما تعد استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الحلقة الأهم فى سلسلة تطور الأحداث الأخيرة، إذ تكشف أن المنافسة مع الصين التى لم توصف فى الاستراتيجية كتهديد، لا تبدأ من بحر الصين الجنوبى أو جنوب شرق آسيا، بل تبدأ من أمريكا اللاتينية. استراتيجية الأمن القومى الأمريكى، تتضمن العديد من التفاصيل عن سياسة واشنطن مع مناطق مختلفة فى العالم، والتى خصصت لآسيا (25 فقرة) أكثر من «أوروبا، والشرق الأوسط، وإفريقيا» مجتمعة ب(13، و7، و3 فقرات) أشارت إلى أن مواجهتها مع «بكين» لن تبدأ من محيط الأخيرة، بل تركت هذا الأمر لحلفاء واشنطن فى المنطقة، حيث أكدت الاستراتيجية على ضرورة تعزيز قدرات الردع فى مضيق تايوان، عبر الاعتماد على حلفاء منطقة المحيطين الهندى والهادئ. الصين أوضحت الاستراتيجية أن الصين لم تعد تهديدًا نظاميًا فقط بل منافس اقتصادي، وتمنح الأولوية لإعادة التوازن التجارى معها، وهو ما علقت عليه بعض الصحف الأمريكية بأنه انحراف جذرى، مقارنة بجميع الاستراتيجيات الأمريكية السابقة، بما فيها استراتيجية ترامب الأولى عام 2017. فى المقابل حملت الاستراتيجية فى طياتها تفاصيل تناسب تطور الوضع على الساحة الدولية، وتحديدًا فيما يخص ارتفاع نصف الكرة الغربى إلى رأس القائمة الأمريكية للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، بذريعة ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة فى القارة، وزيادة التدفق غير المنضبط للمهاجرين نحو الولاياتالمتحدة، حيث قدمت الوثيقة مفهومًا عسكريًا بحتاً لمحاربة العصابات وتجار المخدرات، داعية لاستخدام القوة العسكرية الأمريكية مباشرة. وفى هذا الصدد، برزت العديد من التساؤلات لدى العديد من الصحف حول العالم، وأبرزها: لماذا أمريكا اللاتينية الآن بعد سنوات من التناسى، وما علاقة فنزويلا بالأمر، وكيف تدعو واشنطن لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها فى بعض المناطق، فى وقت تنادى فيه وتبذل مساعى لنشر السلام بين الدول المتناحرة حول العالم، لعل الإجابة عن كل ذلك يدور فى فلك كلمة واحدة، وهى الصين. مبدأ مونرو منذ سنوات طويلة، كانت أمريكا اللاتينية تُعامل فى واشنطن كمنطقة مضمونة الولاء، وفضاء جيوسياسى محسوم لصالحها وفق مبدأ مونرو، الذى حكم نصف الكرة الغربى لأكثر من قرن، والذى صدر عام 1823 على لسان الرئيس الأمريكى جيمس مونرو، وكان ضمن مبادئه: أن نصف الكرة الغربى منطقة نفوذ أمريكى، ولا يُسمح لقوة خارجية بالسيطرة عليها، لكن هذا العالم القديم تهشم بهدوء. ومع انشغال الولاياتالمتحدة بحروب الشرق الأوسط وصعود روسيا فى أوروبا، كانت الصين تبنى بهدوء أخطر اختراق جيوسياسى فى التاريخ الحديث فى الخلف الأمريكى. فى هذا الصدد، أوضح ألكسندر بى. جراى، أحد كبار الباحثين بمركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن التابع لمؤسسة المجلس الأطلسى، الذى شغل -مؤخرًا- منصب نائب مساعد الرئيس ورئيس أركان مجلس الأمن القومى بالبيت الأبيض، أن الاستراتيجية الأمريكية تهدف لمنع القوى العظمى الخارجية من ممارسة نفوذ ضار فى نصف الكرة الغربى. ورجح «جراي» أن النتيجة التى يسعى إليها «ترامب»، هى ضمان وصول الولاياتالمتحدة إلى مواقع رئيسية فى نصف الكرة الغربى، مثل: قناة «بنما»، ومعظم منطقة البحر الكاريبى وجرينلاند. الموارد الطبيعية قبل الحديث عن تزايد النفوذ الصينى فى أمريكا اللاتينية والأسباب التى دفعتها للتوغل فى تلك المنطقة، من الضرورى الإشارة لأهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، وبعيدًا عن أهميتها الجغرافية التى تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى الأمريكى، فضلاً عن تمتع القارة بموانئ مهمة مثل شاجواراماس فى فنزويلا، وميناء بنما الاستراتيجى الذى يربط بين المحيطين الأطلسى والهادئ، تحظى المنطقة بأهمية اقتصادية قوية، تتمثل فى ثروات الموارد الطبيعية بداية من إنتاج المعادن الثمينة، وصولًا إلى المواد الاستهلاكية الأساسية، مثل السكر والحبوب والقهوة والمطاط، مرورًا بالنفط والغاز، غيرهم. كما تمثل تشيلى وبيرو - حاليًا- نحو 35 ٪ من إنتاج النحاس العالمى، و31 ٪ من احتياطيات النحاس العالمية.. وبالمثل شكلت تشيلى والأرجنتين والبرازيل 37 ٪ من إنتاج الليثيوم العالمى، و53.2 ٪ من احتياطيات الليثيوم العالمية فى نهاية عام 2022، باستثناء احتياطيات بوليفيا المقدرة ب 23 مليون طن من الليثيوم، وفقًا لمعهد بيكر. تحالفات دولية باختصار نجد أن موقع وموارد أمريكا اللاتينية جعلها محط أنظار الصين، ليس لتنمية عجلة الاقتصاد فحسب، بل يبدو أنه لمنافسة الولاياتالمتحدة فى منطقة نفوذها التقليدية، خاصة بعد تزايد التواجد الأمريكى –فى المقابل- فى منطقة بحر الصين الجنوبى وجنوب شرق آسيا، عبر التحالفات الأمنية مع اليابان وكوريا الجنوبية، وغيرها، ونشر ردعً عسكرى حول حدود الصين الاستراتيجية، وهو ما تعتبره بكين تهديدًا لأمنها القومى فى مناطق نفوذها، وهو ما دفع الأخيرة –على ما يبدو- لاستخدام نهج واشنطن ضدها، عبر التوغل فى أمريكا اللاتينية، بدلًا من التورط فى حرب فى منطقة جنوب شرق آسيا. آسيا وفى هذا الصدد، قال ويل فريمان الباحث فى دراسات أمريكا اللاتينية؛ فى مجلس العلاقات الخارجية (CFR) -تعليقاً على استراتيجية الأمن القومى الأمريكي- إنه مع صعود الصين إلى مرتبة منافس قريب من الند للولايات المتحدة، تصدرت آسيا فى كثير من الأحيان قائمة أولويات استراتيجية الأمن القومي؛ إلا أن هذا العام احتل نصف الكرة الغربى الصدارة؛ مثلما فعل سابقًا فى أعوام 1987، و1990، و2006. وكان تقرير آخر لمنظمة (CFR) نشر فى يونيو الماضى، أوضح أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها يخشون من استغلال الصين لعلاقاتها الجيدة مع دول أمريكا اللاتينية، لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، بما فى ذلك التأكيد على مبدأ الصين واحدة وعدم الاعتراف بتايوان، وتعزيز الأنظمة الموجودة حاليًا، والموالية للصين، مثل تلك الموجودة فى كوبا، وفنزويلا تحديدًا. الصعود الصيني انطلاقًا من سياسة بكين الخارجية، شهدت العلاقات بين الصين، ودول أمريكا اللاتينية تطورًا كبيرًًا، تحديدًا منذ تولى شى جين بينج الرئاسة الصينية فى 2013، حيث وظفت بكين أدوات التجارة والاستثمار والدبلوماسية، لتعزيز وجودها -فى شكل مغاير للشكل الأمريكى المتدخل عسكريًا- وهو ما لاقى ترحيبًا فى أغلب دول أمريكا اللاتينية التى تسعى للتنمية. وخلال سنوات قليلة، وسعت الصين اهتمامها بأمريكا اللاتينية فى سياق مبادرة «الحزام والطريق» بمشاركة 21 دولة؛ كما أصبحت بكين أهم قوة اقتصادية جديدة فى أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى، إذ ارتفعت التجارة بين الجانبين من مستوى يكاد لا يذكر فى عام 1990، إلى 482.6 مليار دولار أمريكى فى عام 2022، حسب البيانات الصادرة عن الإدارة العامة للجمارك فى الصين. كما أوضحت الجمارك الصينية أن قيمة التجارة الخارجية مع أمريكا اللاتينية ارتفعت بنسبة 9.6 % على أساس سنوى إلى 2.79 تريليون يوان أى ما يقدر بنحو 391.82 مليار دولار فى الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024. علاوة على ذلك، تمتد الهيمنة الصينية إلى شريان طرق التجارة العالمية، عبر توسيع الموانئ والمطارات والطرق السريعة والسكك الحديدية؛ فعلى سبيل المثال افتتح الرئيس الصينى شى جين بينج فى منتصف نوفمبر 2024 ميناءً عملاقًا بقيمة 3.5 مليار دولار فى بيرو، ضمن مبادرة (الحزام والطريق)، بملكية أغلبية لشركة الشحن الصينية الحكومية كوسكو، ما يخلق خطًا مباشرًا للشحن بين شنجهاى وبيرو. كما تمتد أنشطة الصين من بناء المصافى ومرافق المعالجة لموارد مختلفة، مثل: (الفحم، والنحاس، والغاز، والنفط، واليورانيوم، والليثيوم) فى أكثر من 50 مبادرة لتنمية الطاقة فى 15 دولة فى «أمريكا اللاتينية». أما فنزويلا - حسب تقرير لمرصد (OEC) نشر فى 2023 - فتعد أكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الصينية فى المنطقة، بعد أن حظرت الحكومة الأمريكية جميع مبيعات الأسلحة التجارية إلى البلاد بدءًا من عام 2006. باب الجحيم وفى قلب هذا التحول السياسى الأمريكى تقف فنزويلا -الدولة النفطية- أمام هجمات وتهديدات أمريكية مفاجئة؛ فالدولة التى تعانى –بالفعل- حصارًا اقتصاديًا وعقوبات أمريكية واسعة، وجدت فى الصين ممولًا وشريكًا تكنولوجيًا وداعمًا سياسيًا. وبالمقابل وجدت بكين فى كاراكاس بوابتها الكبرى نحو القارة، وشريكًا غير موالٍ لواشنطن، ما جعل من فنزويلا الخط الأمامى للمواجهة بين القوتين العظميين. وفى هذا السياق، اعتبر «جيسون ماركزاك» نائب الرئيس والمدير الأول فى مركز «أدريان أرشت لأمريكا اللاتينية» التابع للمجلس الأطلسى، أن استراتيجية الأمن القومى الأمريكى تلقى الضوء على الهدف النهائى لإدارة «ترامب» فى فنزويلا؛ موضحًا أن النظام الفنزويلى الحالى يقدم ترحيبًا واسعًا بنفوذ –من وصفهم- بالخصوم الأجانب، ما يُشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى الأمريكى. وأكد «ماركزاك» أن النجاح الأمريكى فى فنزويلا يعنى (تنصيب حكومة تتبع –ما وصفه- الديمقراطية الغربية، وتُمثل شريكًا حقيقيًا للولايات المتحدة، كجزء من هدف توسيع الشراكات الأمريكية). نيجيريا انطلاقًا من النقطة الأخيرة، أثيرت بعض الأسئلة حول ما إذا تعرضت دول أخرى حول العالم ترجح كفة الصين عن الولاياتالمتحدة لضغوط مشابهة كالتى تواجه فنزويلا. وذلك، وسط وجود مؤشرات على تعرض نيجيريا فى وسط أفريقيا –على سبيل المثال- لضغوط أمريكية حالية، بعد إعلان واشنطن فرض قيود على تأشيرة شخصيات اتهمتها بانتهاكات لحرية الدين. ويذكر أن نيجيريا تعد أكبر سوق لعقود الهندسة الصينية فى إفريقيا، وثانى أكبر سوق تصدير، وثالث أكبر شريك تجارى، ووجهة استثمارية رئيسية بحجم تبادل تجارى وصل إلى 15.1 مليار دولار أمريكى خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2024، وفقًا للموقع الرسمى لوزارة الخارجية الصينية. ومع ذلك، رأت «راما ياد» مديرة مركز أفريقيا فى المجلس الأطلسى، إن استراتيجية الأمن القومى الأمريكى تشير إلى تطور بارز هذا العام فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الأفريقية، وهو تصاعد التوترات مع أكبر اقتصادين إفريقيين جنوب إفريقيا، ونيجيريا. ويبدو أن تلك النزاعات مدفوعة باعتبارات حماية المسيحيين، ومصالح إسرائيل، أكثر منها بالمنافسة مع الصين على الأراضى الإفريقية. روسيا من جانبها، سلطت صحيفة «إزفستيا» الروسية الضوء على خلفيات التصعيد الأمريكى تجاه نيجيريا؛ معتبرة أن واشنطن تخشى تراجع نفوذها فى قطاع الطاقة النيجيرى، مع توجه أبوجا لتنويع أسواقها الدولية. كما رجح الخبير السياسى فالنتين بيانكى، فى حديثه للصحيفة الروسية، أن تشدد «ترامب» هى أداة ضغط تفاوضية لإبقاء نيجيريا ضمن المدار الاقتصادى الأمريكى، لا سيما فى مجال النفط. وفى الوقت الذى شددت فيه الولاياتالمتحدة على استخدام القوة العسكرية لحل -ما تعتبره- أزمات فى أمريكا اللاتينية؛ تواصل واشنطن فى الوقت ذاته جهودها الحثيثة لإنهاء واحدة من أعنف الحروب التى عصفت بأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهى الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة لقرابة 4 سنوات؛ حيث تقوم الإدارة الأمريكية بتحركات مكوكية لإنهاء الحرب، ودعوة روسيا للسلام! وفى هذا الصدد أثيرت الدهشة حول طبيعة السياسة الأمريكية التى تملك يدًا تطالب بالسلام، وأخرى تهدد بالسلاح. ولكن، يبدو أن أهداف الولاياتالمتحدة –خلف الستار- من إحلال السلام مع «روسيا» له أبعاد أخرى، ومن ضمنها خلخلة الترابط الصيني-الروسى، من خلال تهدئة مخاوف موسكو التى دفعتها للحرب.. بمعنى أكثر وضوحًا، إذا استطاعت الإدارة الأمريكية تحقيق نجاح فى الملف الأوكرانى، فإن روسيا لن تقف –بالطبع- مع الغرب، ولكنها قد تتحفظ من الوقوف مع الصين صراحة أو فى العلن. وفى هذا الشأن، أوضح «فريدريك كيمب» الرئيس والمدير التنفيذى للمجلس الأطلسى بتقرير نُشر فى أكتوبر الماضى، أنه فى ظل تحقيق الإدارة الأمريكية اختراقات سياسية لحل عدد من الأزمات حول العالم، فإن ما يبقى دون حل، هو أهم تحديات السياسة الخارجية التى يواجهها «ترامب» مع روسياوالصين، فى ظل التهديد المتزايد الذى تشكله جبهة الصينوروسيا وإيران وكوريا الشمالية، والذى يُعرف بشكل متزايد باسم (CRINK)، وهو مصطلح يجمع الأحرف الأولى من الدول الأربع. وأكد «كيمب» أن التعامل مع البلدين سوف يتطلب قدرًا أعظم من الإبداع، ومهارات التفاوض، والتفكير الاستراتيجى. من جانبها، قالت «أنجيلا ستنت» -فى تقرير صادر عن المجلس الأطلسى، يتناول كيفية تعامل الغرب مع هذا التحدى الجديد- إن حرب روسيا مع أوكرانيا خلقت مجموعة جديدة من الشركاء؛ معتبرة أن العلاقات الثنائية المتنامية بين دول الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، تُعد أساسية لاستمرار روسيا فى مواصلة الحرب؛ مضيفة أن هذه الدول ملتزمة بإنشاء نظام عالمى جديد، وتُمثل كتلة مناهضة للولايات المتحدة. Untitled-1_copy