لم يكن الأمر من قبيل المصادفة أنه فى نفس يوم الإعلان عن سقوط نظام الحكم السابق فى سوريا، قامت قوات العدو الإسرائيلى، فى فجر ذات اليوم، بالاستيلاء على جبل الشيخ، واقتحام المنطقة العازلة المتاخمة للجانب السورى من مرتفعات الجولان والاستيلاء عليها، ومواصلة توسعها لتستولى على عشرات القرى فى الجولان والقنيطرة ودرعا، محتلةً بذلك أكثر من ألف كم² من الأراضى السورية ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة. الاحتلال الإسرائيلى الحالى لمرتفعات الجولان وجبل الشيخ حقق لإسرائيل أفضلية استراتيجية كبرى للاستطلاع والرصد الرادارى والنيرانى على محافظاتدمشق والقنيطرة ودرعا، مع تمركز القوات الإسرائيلية على مسافة 25 كم من العاصمة دمشق نفسها، والتى باتت بذلك تحت السيطرة النيرانية الإسرائيلية. وباعتبار أن جبل الشيخ هو المنبع الرئيسى لنهر الأردن، فإن إسرائيل بذلك أيضًا تكون قد أحكمت قبضتها على منابع نهر الأردن، والتى تتضمن كذلك التحكم فى منابع نهر اليرموك والسيطرة عليها، لتحقق خطوة كبرى فى استراتيجيتها المائية الجشعة والعدوانية. الكارثة الحادثة هذه الأيام فى جنوبسوريا تتضمن أيضًا قيام قوات العدو الإسرائيلى باحتلال عشرات القرى والأراضى السورية فى ريف الجولان والقنيطرة ودرعا، وقيامها بتوغلات وحملات تفتيش ومداهمة وترويع للأهالى بإقامة الحواجز ونقاط التفتيش، مع قيام العدو الإسرائيلى بتغذية ودعم التوجهات الانفصالية لبعض قطاعات الدروز السوريين، بعد تعرض قراهم وبيوتهم لهجمات من بعض العشائر والقبائل البدوية المناوئة لها. لم يكن وادى اليرموك الاستراتيجى، حيث منابع مياه الأنهار السورية والأردنية، بعيدًا عن الأعمال العدوانية الإسرائيلية، فقد حولت قوات الاحتلال وادى اليرموك إلى منطقة عسكرية محظورة، وأخطرت السكان بمنع دخولهم إلى الوادى، وحتى المزارعين الذين حاولوا الذهاب إلى حقولهم وبساتينهم تم إطلاق النيران عليهم لمنعهم من التوجه إليها، فى ظل ضعف مروّع وتخاذل مهين من النظام الحالى فى دمشق. • • • الوضع فى لبنان ليس أقل كارثية عما سبق، فمحور المقاومة، الذى تضررت قدراته وإمكاناته بصورة بالغة بعد سقوط سوريا وانقطاع خطوط الإمداد من خلالها، قد تعرض أيضًا لخسائر فادحة بعد استشهاد السيد حسن نصر الله وعدد كبير من قيادات الحزب وكوادره، وما لحق بمخزوناته من السلاح من استنزاف شديد. جميع هذه العوامل وضعت حزب الله اليوم فى موقف بالغ الصعوبة. إسرائيل، التى تعى جيدًا كل ذلك، رفضت تنفيذ الانسحاب الكامل من جنوبلبنان، وتمسكت بالبقاء فى خمسة مواقع استراتيجية حدودية فى الجنوباللبنانى لأجل غير مسمى، وهذه النقاط هى: تلة العويضة، وتلة الحمامص، وجبل بلاط، واللبونة، والعزية، وجميعها مواقع استراتيجية حاكمة ومسيطرة استطلاعيًا ونيرانيًا على مساحات شاسعة من جنوبلبنان، فضلًا عن أنها تؤمّن المستعمرات الإسرائيلية فى شمال فلسطين. وفى جميع تلك النقاط الخمسة بدأ جيش العدو الإسرائيلى يتمركز ويقيم تحصينات عسكرية دائمة، مع إحاطتها بالسياج والألغام والجدران الأسمنتية، وإقامة أعمدة مزودة بكاميرات المراقبة وأجهزة التصوير والاستشعار عن بُعد، مستغلًا ارتفاعها الشاهق فوق سطح البحر، وإشرافها بالكامل على مستعمراته فى شمال فلسطين وكامل مداخل جنوبلبنان. أما الولاياتالمتحدة، التى تدّعى فى الظاهر قيامها بالوساطة، فتقوم فعليًا بالتنسيق الكامل مع إسرائيل، لتطرح ورقة مطالب نزع سلاح الفصائل المسلحة فى لبنان، وفى مقدمتها سلاح حزب الله، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من المواقع اللبنانيةالمحتلة ووقف الضربات الإسرائيلية على لبنان. الولاياتالمتحدة وإسرائيل تدفعان لبنان دفعًا نحو بديلين يصبان صبًا فى مصلحة إسرائيل. البديل الأول هو زيادة الصدع والانقسام فى الجبهة الداخلية اللبنانية، بتعميق التباين بين أطرافها، وإظهار حزب الله بأنه المتسبب فيما سيحدث فى لبنان لاحقًا من ضياع فرص الانسحاب الإسرائيلى، وضياع فرصة الحصول على المساعدات الاقتصادية الأمريكية والغربية الموعودة، واستمرار تردّى أوضاع الاقتصاد اللبنانى. والبديل الثانى هو بقاء الوضع على ما هو عليه، فى ظل تمسك حزب الله بسلاحه، وعدم قدرة الدولة اللبنانية ولا رغبتها فى الدخول فى مواجهة دامية مع حزب الله قد تشعل حربًا أهلية وإقليمية، وحينئذ ستكون تلك هى الذريعة التى تستغلها إسرائيل لتوجيه ضربات مدمرة للبنان، والقيام باجتياح عسكرى شامل لجنوبلبنان، بذريعة تدمير ما تبقى من معاقل وقواعد حزب الله، بحجة تأمين حدودها ومستعمراتها الشمالية. وقد تستغل إسرائيل الفرصة للقيام بتوغّل عسكرى كبير للوصول إلى نهر الليطانى، وتحتل كافة الأراضى الموجودة جنوب الليطانى، مستوليةً على الأراضى الخصبة الغنية الشاسعة فى تلك المنطقة، بالإضافة إلى استيلائها على مجرى النهر كمصدر استراتيجى للمياه العذبة، بالاستيلاء على ما يقارب 750 مليون متر مكعب سنويًا من المياه، لتحوّل جزءًا منها إلى مستعمراتها الاستيطانية فى شمال فلسطينالمحتلة، ولتحقق فى ذات الوقت هدفًا استراتيجيًا عسكريًا بجعل مجرى نهر الليطانى حدودها الجغرافية الشمالية كمانع مائى صعب، يحول دون قيام أى طرف مقاوم لبنانى بالوصول إليها. • • • ما يحدث فى الأيام الراهنة يعكس اختلالًا خطيرًا فى التوازن الاستراتيجى فى سورياولبنان فى مواجهة إسرائيل، التى باتت تهيمن تمامًا على المقدرات العسكرية فى بلاد الشام، فى ظل غياب أية قوة يمكن أن تتصدى لها أو تردعها عن القيام بأى تحرك عسكرى. ولا نبالغ إذا ما توقّعنا قيام إسرائيل بتنفيذ حملة عسكرية كبرى فى جنوبسورياولبنان، بمجرد تعافيها من حرب غزة، وإعادة تعبئة قواتها، واستكمال مخزوناتها من الأسلحة والذخيرة والعتاد. الوضع الحالى المتردى من الضعف يعد وضعًا غير مسبوق من انهيار القدرات العسكرية السورية، وهو وضع سيدفع إسرائيل حتمًا إلى استغلاله بأقصى درجة ممكنة، إن لم تكن قد استغلته فعلًا بتحقيق خطوة استراتيجية خطيرة باستيلائها على جبل الشيخ، مع إدراك إسرائيل أنه فى الوقت الحالى، وعلى المدى القصير والمتوسط، لا يمكن بأى حال من الأحوال إعادة بناء الجيش السورى وإعادته إلى سابق قدراته، وهو ما ستحاول إسرائيل استغلاله لأقصى درجة ممكنة لتحقيق أطماعها وتنفيذ مخططاتها. ذات الأمر فى لبنان، الذى تواصل الجماعات والأحزاب السياسية فيه حالة التشرذم الطائفى القاتل، والارتباط السياسى بأجندات الداعمين الخارجيين، فى ظل غياب الاتفاق والإجماع الوطنى على كيفية مواجهة العدو الإسرائيلى والتصدى لمطامعه فى لبنان. ولا يمكن بأى حال من الأحوال التغاضى عن التداعيات الكارثية لهذا الاختلال الاستراتيجى على الأمن القومى العربى، ولا سيما على الدول الأخرى المتاخمة للكيان الصهيونى، وفى مقدمتها الأردن ومصر.