حلم إنشاء مدرسة صنايع إبداعية فى مصر تقوم بتعليم حرفة وتحفظ أسرار تقنياتها فى مصر... هو حلم لا أعتقد أنه خاص بى وحدى، بل حلم كثير من المصريين الذين أطلق عليهم لقب (حراس التراث)، أن توجد مدرسة تحول الإبداع إلى مصدر رزق لأجيال وأجيال. ولعل ما يجعل هذا الحلم أكثر إلحاحًا اليوم هو الشعور العميق بأن مصر، بتاريخها وحضارتها الممتدة عبر آلاف السنين، تستحق أن يكون لها المكانة الرائدة فى مجال الصناعات الإبداعية. فهذه الحرف ليست مجرد أدوات للرزق، بل هى لغة أبدعها المصريون عبر الزمن، وتركوا من خلالها تراثًا عظيمًا. ومن هنا، كان الحلم ملحًا وضروريًا، وليس مجرد رغبة شخصية. • • • هذا الحلم لا يُعد جديدًا على تاريخ مصر أو غريبًا عنها، بل هو تجربة عرفها المصريون وطبقوها فى عصورها القديمة والحديثة. ففى مصر القديمة، وتحديدًا فى البر الغربى بالأقصر، كان هناك ما يعرف بمنطقة «دير المدينة»، وهى التى اعتبرت واحدة من أهم المجتمعات المهنية المتخصصة للحرفيين والعمال الماهرين، لتصبح بذلك من أوائل المدارس الحرفية فى مصر. إذ ضمت ورشًا للتدريب على العديد من المهارات مثل: النقش الغائر والبارز، وتحضير الألوان، والتحنيط والزخرفة، وصناعة التوابيت. ويمكن اعتبار «دير المدينة» من أوائل المجتمعات المهنية المنظمة التى عملت على نقل المهارات الحرفية بين الأجيال بشكل منهجى، وحافظت على شكل من أشكال التعليم والتدريب المستمر. وقد ضمت أقسامًا مختلفة بين الرسم والنحت والكتابة، وكان بها نظام إدارى وسجلات يومية لتدوين المهام. هذه التدريبات المستمرة للعمال ساهمت فى تقديم أهم الأعمال الفنية فى تاريخ الحضارة المصرية مثل روائع مقابر وادى الملوك والملكات والنبلاء فى البر الغربى بالأقصر. رأيت ذلك بنفسى خلال زياراتى المتكررة للأقصر، وخاصة مقبرة الوزير «رعموزا»، حاكم طيبة فى عهد والد «أخناتون»، الملك «أمنحتب الثالث». وهى مقبرة دائمًا ما أحرص على زيارتها سنويًا للاستنارة والتعلّم من أجدادنا الفنانين العظماء، ولأمتّع عينى بروائع الإبداع الراقى؛ إذ تنطق جدران المقبرة بما بلغته مهارات الفنانين الحرفيين من براعة ودقة مدهشة، كما نجد الأستاذ يصلح الأشخاص المرسومين بوضع علامة باللون الأحمر تشير إلى النسبة السليمة... (شىء رائع ومذهل)!!! فى مصر الحديثة، وتحديدًا فى عصر «محمد على»، لعبت المدارس الصناعية والحرفية دورًا مهمًا فى دعم الجيش وإنشاء صناعات جديدة متطورة؛ حيث أنشأ «محمد على» مجموعة من المدارس الصناعية والحرفية على غرار المدارس الأوروبية فى ذلك العهد، فنجد مدرسة الهندسة أو «المهندسخانة»، التى عين فيها «محمد على» معلمه «حسن أفندى» المعروف ب«الدرويش الموصلى» ليدرس قواعد الحساب والهندسة والمقادير والقياسات والارتفاعات. وكانت هناك مدرسة العمليات التى تمثلت مهمتها فى إعداد المهندسين لتنفيذ الأعمال الهندسية المتطورة، والتى أصبحت بعد ذلك كلية الهندسة التابعة لجامعة عين شمس. ومن جمال هذا التاريخ أن تلك المدارس كانت نواة لمدارس جديدة استقلت بذاتها، فنجد هذه المدرسة، أو كما عُرفت لاحقًا ب«مدرسة الفنون والصنائع»، قد انفصل عنها قسم «الفنون والصناعات الزخرفية»، واتخذ مقرًّا له فى سراى فاضل باشا الدراملّى بالحمزاوى بالقاهرة تحت اسم «الفنون والزخارف المصرية»، لينتقل إلى مقره الحالى فى سراى الأورمان بالجيزة، ويُعرف فيما بعد باسم «مدرسة الفنون التطبيقية»، ثم باسمه الحالى «كلية الفنون التطبيقية». الشاهد أنه كان للحكام والطبقة العليا من السلاطين والباشوات فى مصر دور مهم فى دعم إنشاء المدارس الصناعية. فقد أنشأ السلطان «حسين كامل باشا» المدرسة الصناعية بالبحيرة، وأنشأ «محمود سليمان باشا» عضو مجلس الشورى ورئيس حزب الأمة فى عام 1903 وعلى نفقته الخاصة مدرسة صناعية فى مدينة أبو تيج بمحافظة أسيوط، لتعليم النجارة والحدادة والخياطة والخراطة. أيضًا لا يمكن أن ننسى الدور البارز الذى لعبته «أمينة هانم إلهامى»، زوجة «الخديوى توفيق» ووالدة الأمير «محمد على» صاحب قصر المنيل؛ إذ آمنت «أمينة هانم» بأهمية التعليم الفنى فى نهضة الأمة، فسعت إلى أن يكون لها بصمة حقيقية فيه، ومن هنا أسست المدارس الإلهامية الصناعية الزخرفية لإحياء الفنون الإسلامية وصون جمالياتها، وقد ضمت هذه المدارس ورشًا متعددة أسهمت فى تخريج نخبة من أمهر الفنانين فى فنون الأرابيسك والمشربيات والمحاريب الخاصة بالجوامع. ولم تُنشأ المدارس الصناعية فى مصر قديمًا كمشروعات حكومية فقط، بل ساهم فى بنائها أيضًا أفراد من المجتمع، قدموا نماذج حيّة على وعيهم بأهمية الحرف ونقلها عبر الأجيال. ومن ضمن هذه النماذج كانت «جمعية التوفيق القبطية المركزية»، والتى أسست أول مدرسة صناعية للأقباط فى الفجالة، وبها فصول للبنين والبنات، ثم أنشأت لها ثلاثة فروع فى الإسكندرية وطنطا والفيوم. ومع حصول مصر على استقلالها، ازداد عدد المدارس الصناعية لتدريس البرادة والحدادة والنجارة وخرط وتطعيم الأخشاب والنقش والزخرفة وصناعة الجلود والنسيج والسجاد وتجليد الكتب وغيرها. هذه المدارس ساهمت فى بناء كوادر فنية ماهرة، قادرة على دعم حركة الصناعة الوطنية، ووضع أسس أكثر صلابة لمسار تحديث الحرف التقليدية. كل هذا يظهر أن المدارس الحرفية والصناعية ليست محطة جديدة فى تاريخ مصر؛ فقد عرفت مصر عبر عصورها المختلفة كيفية بناء مؤسسات تطور وتحافظ على الصناعات الحرفية واليدوية الجميلة، إلا أن هذا التاريخ يواجه بعض التحديات، فالصناعات الحرفية واليدوية اليوم تواجه تحديات حقيقية لأسباب كثيرة ليس هنا مكان لمناقشتها. • • • انطلاقًا من هذا التاريخ وتلك التحديات، ومن رغبتى العميقة فى وجود مركز إبداعى تعليمى وتدريبى، أو بالأحرى، كما أحب أن أسميه (مدرسة صنايع إبداعية)، رأيت أن أفضل ما يمكن أن أقدّمه هو إنشاء مكان يحفظ تاريخ وأسرار وجماليات الحرف المصرية، وينقل تجارب وخبرات ومهارات رواد الحرف وحملة تراثها، ويسهم فى إعداد جيل من الفنانين الحرفيين يمتلكون المهارة والقدرة على الابتكار وتقديم الجديد، فضلًا عن قدرتهم على المنافسة فى سوق العمل محليًا وعالميًا. أحلم بمدرسة صنايع إبداعية تصبح منارة لكل من يسعى من أجل تأسيس نقطة انطلاق حقيقية فى مصر المحروسة، وأتمنى أن تكون هذه الخطوة بداية لمسار أوسع يعزز مكانة مصر كعاصمة للفنون والحرف فى المنطقة. وإننى على يقين بأن الاستثمار فى الحرف ليس مجرد دعم لمهنة، بل هو حفاظ على هوية أمة تكونت من طبقات من الحضارات الإنسانية العظيمة، وتحتاج إلى أبنائها فى عمليات مستمرة من التطوير والإبداع لتبقى حية ومشرقة. حلمت، وما زلت أحلم فى هذا العمر باتخاذ خطوات مدروسة وجادة، تحقق هذا الحلم إلى حقيقة فى مصرنا المحروسة... التى، يا رب، تظل محروسة. مصممة الحلى