صدرت منذ أيام بيانات التضخم لشهر نوفمبر 2025 عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وبصفة عامة جاءت البيانات أقل من التوقعات، بما يشى، للوهلة الأولى، بأن موجة صدمات التضخم ربما تكون فى طريقها إلى التلاشى، وبما قد يُفسَّر على أنه إشارة أولية تسمح للسياسة النقدية بالتأهّب لمواصلة مسار التيسير. فقد سجّل معدل التضخم الشهرى انخفاضًا قدره 0٫2٪، وتراجع المعدل السنوى بصورة هامشية إلى 10٪ مقابل 10٫1٪ فى أكتوبر، وهو تراجع بنكهة الثبات، إذ لا يحمل تغيرًا ملحوظًا فى حركة الأسعار عبر مختلف المجموعات السلعية، كما أنه مدفوع، فى الأساس، بانخفاض حاد فى أسعار مجموعة الخضروات ذات الطبيعة الموسمية عالية التقلب. فى المقابل، واصلت المجموعات الخدمية، وعلى رأسها السكن والطاقة والنقل والاتصالات، تسجيل ارتفاعات كبيرة على أساس سنوى، فضلًا عن زيادات شهرية متواصلة مقارنة ببيانات أكتوبر، وهو ما يشير إلى استمرار الضغوط التضخمية ذات الطبيعة الهيكلية، وإلى بقاء أثر صدمة أسعار المحروقات ممتدًا داخل المكونات الخدمية الأكثر ارتباطًا برفاهية المستهلك وتكاليف معيشته. مما سبق يتضح أن الانخفاض الشهرى لم يكن نتيجة تحسّن عام فى ديناميكيات السوق أو انحسار شامل فى الضغوط التضخمية، بقدر ما كان انعكاسًا مباشرًا لانخفاض حاد وموسمى فى أسعار الخضراوات بلغ نحو 15٫8٪ خلال شهر واحد. وبالنظر إلى الوزن النسبى لمجموعة الطعام والمشروبات فى سلة المستهلكين، كان هذا التراجع كافيًا لدفع المؤشر العام إلى المنطقة السالبة، حتى فى ظل استمرار غالبية المجموعات الأخرى فى تسجيل زيادات سعرية ملحوظة، ولا سيما المجموعات الخدمية المرتبطة بالسكن والطاقة والنقل والرعاية الصحية، وهى مجموعات تعكس ضغوطًا أكثر لزوجة وأقل قابلية للتراجع السريع. وبذلك، فإن القراءة السالبة للتضخم الشهرى تعكس فى جوهرها تصحيحًا موسميًا محدود النطاق، أكثر مما تعكس تحسنًا بنيويًا فى أوضاع الأسعار. وتزداد دلالة هذا التفسير عند مقارنة مشاهدات نوفمبر بقراءة أكتوبر السابقة. ففى أكتوبر 2025، ارتفع التضخم الشهرى بنسبة 1٫3٪، فى موجة اتسمت باتساع نطاقها، حيث شملت ارتفاعات ملحوظة فى الغذاء، والملابس، والسكن، والطاقة، والعناية الشخصية، وكان الارتفاع الكبير فى أسعار الخضراوات حينها، بنسبة قاربت 12٫9٪، أحد أبرز محركات هذه الموجة. أما فى نوفمبر، فقد انقلب الاتجاه بشكل معنوى، ولكن لأسباب عكسية تمامًا، إذ تحولت الخضراوات من مصدر ضغط تضخمى إلى عامل تهدئة قوى، فى حين لم تظهر بقية المجموعات أى ميل مماثل للانخفاض. • • • على العكس من ذلك، استمرت الضغوط الهيكلية فى قطاعات رئيسية لا تخضع لتقلبات موسمية حادة. فقد سجلت مجموعة السكن والمرافق ارتفاعًا شهريًا تجاوز 2٫5٪، مدفوعة بزيادات فى الإيجارات الفعلية والمحتسبة، وواصلت مجموعة الكهرباء والغاز ومواد الوقود الأخرى اتجاهها الصعودى. كما شهدت مجموعة النقل والمواصلات قفزة لافتة قاربت 7٫1٪ خلال شهر واحد، نتيجة ارتفاع تكاليف النقل الخاص وخدمات النقل، وهو ما يعكس أثرًا متراكمًا لأسعار الطاقة وسعر الصرف وتكاليف التشغيل. كذلك واصلت مجموعات الرعاية الصحية، والمطاعم، والفنادق تسجيل زيادات شهرية تعكس ضغوط الأجور وتكاليف الخدمات، وهى بطبيعتها أكثر لزوجة وأقل قابلية للتراجع السريع. وتقدم مجموعة الفاكهة مثالًا كاشفًا على الفارق بين التقلب الشهرى والاتجاه السنوي. ففى شهر أكتوبر الماضى، انخفضت أسعار الفاكهة شهريًا بنحو 10٫6٪، ما أسهم حينها فى تهدئة جزئية للتضخم الغذائى، لكنها ظلت تسجل تضخمًا سنويًا مرتفعًا تجاوز 32٪. وفى نوفمبر، لم يكن للفاكهة دور يُذكر فى خفض التضخم الشهرى، بينما واصل معدلها السنوى الارتفاع إلى أكثر من 33٪. هذا التباين يؤكد أن بعض المجموعات الغذائية، حتى وإن شهدت تراجعات موسمية مؤقتة، لا تزال تعكس ضغوط تكلفة كامنة مرتبطة بالنقل والتخزين والتبريد وسلاسل الإمداد، وهى ضغوط لا تزول بانتهاء موسم أو تحسّن عارض مؤقت. وعند الانتقال إلى بيانات التضخم السنوى، تتضح الصورة بشكل أوضح؛ فمعدل التضخم البالغ 10٪، رغم انخفاضه الطفيف، يخفى وراءه تباينات حادة بين المجموعات المختلفة. فالتضخم فى السكن والطاقة تجاوز 21٪، وفى الرعاية الصحية اقترب من 28٪، وفى النقل والمواصلات تخطى 21٪. وهذه المجموعات تمثل جوهر إنفاق الأسر، وهى الأكثر تأثيرًا على تكلفة المعيشة الحقيقية، كما أنها الأقل استجابة لتقلبات العرض قصيرة الأجل. ومن ثم، فإن استقرار التضخم السنوى عند هذه المستويات لا يعنى انحسار الضغوط، بقدر ما يعكس انتقالها من مجموعات الغذاء إلى الخدمات. • • • تتجلى أهمية التركيز على مؤشرات أعمق من التضخم العام، وعلى رأسها التضخم الأساسى، فى ضوء البيانات الأخيرة التى أظهرت ارتفاعه إلى 12٫5٪ على أساس سنوى فى نوفمبر 2025، مقارنة ب12٫1٪ فى أكتوبر، رغم تراجع التضخم العام الشهرى. فالتضخم الأساسى، الذى يستبعد العناصر الأكثر تقلبًا، يعكس الاتجاه العام للأسعار المرتبط بالطلب المحلى وتكاليف الإنتاج والخدمات، ويكشف أن الضغوط السعرية الجوهرية لم تتراجع بالقدر الذى يوحى به الانخفاض الظاهر فى مؤشر أسعار المستهلكين (الذى يعكس التضخم العام). تكمن أهمية هذا المؤشر فى كونه المرجع الرئيس لصانعى السياسة النقدية، لأنه يعكس التضخم المستدام والمتوقع، وليس التضخم العابر أو الموسمى. ومن ثم، فإن قراءة شهر واحد، حتى لو بدا الانخفاض فى التضخم العام ملحوظًا، لا تكفى لإعادة تقييم المخاطر التضخمية أو لتبرير أى تعديل جوهرى فى مسار السياسة النقدية. ولا يتوقف تقييم البنك المركزى عند حدود مؤشرات الأسعار وحدها، بل يمتد ليشمل مجموعة أوسع من البيانات، من بينها توقعات التضخم، وأسعار الفائدة الحقيقية، ونمو الائتمان، واستقرار سعر الصرف، وتدفقات النقد الأجنبى. كما ينظر كذلك إلى مؤشرات المالية العامة، وعلى رأسها مدى نجاح برنامج الطروحات الحكومية فى جذب استثمارات حقيقية وتخفيف الضغط على التمويل المحلى، إذ إن تعثر هذه الطروحات ينعكس ضغطًا إضافيًا على السيولة ويغذى التوقعات التضخمية، بينما يساهم نجاحها فى تهدئة هذه الضغوط ولو جزئيًا. فى ضوء ذلك، يمكن اعتبار تراجع التضخم العام فى نوفمبر مجرد هدوء إحصائى مؤقت، وإن كان تحركًا حميدًا، لكنه لا يعكس تحسنًا هيكليًا فى المستوى العام للأسعار. فالعامل الذى يجب أن يلتفت إليه البنك المركزى، لدى اجتماع لجنة السياسة النقدية الأخير لهذا العام، وقبل اتخاذ قرار بشأن أسعار الفائدة، هو المسار المتوقع للأسعار خلال الأشهر القادمة، وليس قراءة شهر واحد فقط، أو التأثّر بالقراءات المتطرفة (outliers) لبعض المجموعات السلعية المسيطرة. وبما أن الضغوط الأساسية فى قطاعات الخدمات والطاقة والنقل والرعاية الصحية لا تزال قائمة، فإن الحذر يرسم حدود تحرّك السياسة النقدية، حتى لو بدت بعض الأرقام الشهرية مطمئنة فى ظاهرها. كاتب ومحلل اقتصادى