كان التغير للأسوأ الذى طرأ على صورة إسرائيل فى العالم، عامة، وفى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفى أوساط شبابها، خاصة، بسبب حرب الإبادة التى تشنها على قطاع غزة، دورًا كبيرًا فى تدخل الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب (لصالح إسرائيل، بالطبع، وليس من باب الشفقة على الفلسطينيين) لفرض وقف الحرب على رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو. وقد ظن كثيرون، فى إسرائيل، بعد أن توقفت الحرب، أن النقد الموجه إليها سيخفت، أو سينتهى، أو أن الأصوات التى تطالب بمراجعة طبيعة العلاقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، ستعدل عن هذه المطالبات، لكن، المؤشرات تقول إن هذا الظن ليس فى محله. إذ يرى قطاع، لا يستهان به من الشباب الأمريكى، أن هناك خللًا فى العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وأن إسرائيل تتدخل فى توجيه السياسة الأمريكية لصالحها، وليس لصالح بلاده. خذ، على سبيل المثال، التغريدة، التى أطلقها، مؤخرًا، نيلين هايلى، ابن السفيرة الأمريكية السابقة فى الأممالمتحدة، والمنافسة فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهورى، والداعمة بقوة لإسرائيل، نيكى هايلى، التى قال فيها: "إسرائيل مجرد دولة أخرى. يجدر بها أن تتوقف عن التدخل فى سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية إن كنتم تريدون حقًا الحفاظ على منظومة العلاقات معنا". حين يتحدث ابن السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأممالمتحدة بهذه اللغة، التى لا تختلف عن اللغة التى تحدث بها المحتجون المناصرون للقضية الفلسطينية داخل الجامعات الأمريكية، فمن الواضح أن هناك تطورًا عميقًا وذا مغزى فى مواقف الشباب الأمريكى، وليس مجرد ظاهرة هامشية، تخص قطاعًا بعينه منهم، أو احتجاجًا وقتيًا، وانفعاليًا، عابرًا. خذ، أيضًا، استطلاع الرأى، الذى أجرته جامعة هارفارد، فى شهر أغسطس الماضى، وسُئل فيه الشباب من جيل z، الجيل الذى نشأ فى ظل عصر الثورة الرقمية، ويتمتع باستقلالية، وبوعى عال بالقضايا من حوله، ولم تعد تؤثر فيه السرديات المضللة عبر الوسائل التقليدية: «مَن تؤيد؟ إسرائيل أم حماس؟» فكانت الإجابة أن 40% منهم أعربوا عن تأييدهم لإسرائيل، فيما أعرب 60% عن تأييدهم لحماس». نحن نتحدث، هنا، عن تأييد جارف لمنظمة، أضافتها وزارة الخارجية الأمريكية منذ عام 1993م إلى قائمة المنظمات (الإرهابية) الأجنبية، ولا تزال مدرجة حتى يومنا هذا. • • • الأمر يبدو أعمق من مجرد التأثير الذى أحدثته الجرائم التى اقترفتها إسرائيل خلال الحرب. صحيحٌ، أن هذا التطور برز، بوضوح وقوة، خلالها، لكنه ليس وليد اللحظة فقط، وإنما هو تطورٌ جرى بناؤه خلال سنوات طويلة، تبلور فيها وعى جيل الشاب الأمريكى. يزعم، كوبى برادا، أن قاعدة هذا التطور تكمن فيما يسميه: "التحالف الأخضر - الأحمر، وفى اللغة الفكرية التى تبنتها الحركات الشيوعية الجديدة فى الجامعات، التى اتحدت مع الحركات الإسلامية المحسوبة على الإخوان المسلمين فى الولاياتالمتحدةالأمريكية". لكن، ما يلفت النظر فى توصيفه للظاهرة هو تسطيحه للأمور، وترديده للسردية الإسرائيلية، بعينها، التى توجه اتهامات لحركات، لا تحظى، أصلًا، بقبول لا على المستوى الرسمى الأمريكى، ولا على المستوى الشعبى، وتصرف الأنظار، فى الوقت نفسه، عن الأسباب الحقيقية للظاهرة، وعلى رأسها، تجاهل الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وتبنى نهج القوة، كخيار وحيد، لمواصلة فرض الهيمنة عليهم، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقهم. يزعم، برادا، أن تضامن الشباب الأمريكى مع كفاح الفلسطينيين ليس بسبب عدالة قضيتهم وتنكر إسرائيل لها، وإنما بسبب رغبة هذا الجيل من الشباب فى التكفير عن ما يسميه "الخطيئة الأولى للإنسان الأبيض، الذى اغتصب أراضى الهنود الحُمر، واستعبد السود الذين جلبهم من أفريقيا، وتمتع بامتيازات هيكلية لا يتمتع بها الرجل الملون"، وهى أسباب لا تبدو مقنعة إذا ما قارناها بسبب أكثر واقعية، يتمثل فى رغبة هذا الجيل فى "مناهضة منظومة القمع الكولونيالية، التى لم يعد يمثلها فى العالم سوى إسرائيل". • • • من بين أسباب هذا التطور العميق فى مواقف الشباب تزايد أعداد المسلمين فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تتراوح التقديرات بين 4.5 مليون إلى 5.5 مليون، وتشير التوقعات إلى أنهم سيصبحون أكبر ثان مجموعة دينية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية بحلول عام 2040م، متجاوزين بذلك الديانة اليهودية؛ وهو ما ترتب عليه ظهور منظمات إسلامية فاعلة على الساحة الأمريكية، مثل منظمة «مسلمون أمريكيون من أجل فلسطين»، التى لها أكثر من 200 خلية طلابية فى الجامعات الأمريكية، فى إطار «طلاب من أجل العدالة لفلسطين»، وغيرها؛ وهى تقدم سردية مختلفة، تدحض، وتعرى السردية الإسرائيلية للنزاع، التى سادت لعقود عديدة. لم تعد السردية الإسرائيلية هى السردية الوحيدة المهيمنة على الساحة الأمريكية، إذًا، ولم يعد اللوبى اليهودى هو اللاعب الوحيد بها. يشير، إلعاد بن دافيد، إلى أن نضال المسلمين فى الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد الصهيونية، ودعمهم البارز للفلسطينيين، موجود، منذ عقود، حتى قبل السابع من أكتوبر 2023م، فى بؤرة الحوار الإسلامى العام فى الغرب بعامة، وفى الولاياتالمتحدةالأمريكية بخاصة، وأنه تعزز بعد انهيار اتفاقيات أوسلو(سبتمبر 1993م) والانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005م) رغم بعدهم الجغرافى عن النزاع الإسرائيلى الفلسطينى، مشيرًا إلى دور بعض الأئمة المسلمين فى ربط الجماعة الإسلامية بالنضال المعرفى والتوعوى والسياسى ضد إسرائيل والصهيونية، خص منهم بالذكر شخصيتين بارزتين هما: الشيخ ياسر قاضى، ابن لجيل ثان من المهاجرين من باكستان، والإمام عمر سليمان، الجيل الثانى لمهاجرين من فلسطين، اللذين يمثلان جماعات واسعة من الطائفة الإسلامية، خاصة فى تكساس، حيث يقيمان، وفى مناطق رئيسة أخرى، من بينها واشنطن العاصمة، وكاليفورنيا. يعكس فوز زهران ممدانى، الشاب الأمريكى المسلم، بمنصب عمدة مدينة نيويورك، المدينة التى يتواجد بها أكبر تجمع يهودى فى العالم فى مدينة خارج إسرائيل (1.5 مليون يهودى)، التطورات العميقة التى بلورت توجه الجماعة الإسلامية منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2011م؛ كما يرمز إلى تضافر الحضور الإسلامى المتزايد مع الانخراط الفاعل، والملحوظ، فى الشأن الاجتماعى والمدنى على الساحة العامة. مهد هذا التطور، الذى مثلت فيه الهوية الإسلامية وسيلة للكفاح من أجل العدالة الاجتماعية وضد العنصرية والتمييز، الأرض لصعود زهران ممدانى، وإلى تحول الجيل الإسلامى الصاعد، أكثر من كل شىء كما يبدو، من جيل حذر، وغير متداخل فى الشأن السياسى، إلى جيل جديد يسعى للتأثير على السياسة الأمريكية. عززت الحرب، الوحشية، على غزة، هذه الاتجاهات، وأضفت على الرسائل المتعاطفة مع الفلسطينيين بعدًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا، ووجدت صداها فى نيويورك بخاصة بين طوائف المهاجرين، والتقدميين والإسلاميين، الذين يشكلون أقلية دينية تقدر بنحو 10% من إجمالى السكان فى المدينة. يجد هذا التحول، المناهض للصهيونية، وللممارسات الوحشية الإسرائيلية، تعبيرًا لدى طبقة شابة من الساسة المسلمين، أيضًا، من بينهم، عضوة الكونجرس، إلهان عمر، ذات الأصول الصومالية، ورشيدة طليب، ذات الأصول الفلسطينية. • • • يرمز فوز ممدانى، الذى رفض إدانة حركة حماس، أو نزع سلاحها، حتى بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، الذى رعاه ترامب، إلى مرحلة متقدمة من تداخل الطائفة الإسلامية فى الشأن السياسى بالولاياتالمتحدةالأمريكية، جنبًا إلى جنب مع تطلع إلى توسيع رقعته فى الساحات المحلية والفيدرالية. يعظم هذا الواقع الجديد حملات تعرية الممارسات الإسرائيلية، ويهدد، من ناحية أخرى، بمفاقمة الصورة السلبية لإسرائيل، والإضرار بوضعها على الساحة الأمريكية والدولية. • • • من بين أسباب التغير الذى طرأ على موقف هذا القطاع المهم من الشباب الأمريكى تغير نظرة الحزب الديمقراطى الأمريكى إلى العلاقة مع إسرائيل، مع ازدياد تأثير العناصر التقدمية به، كما تقول إيلانا شوشان، التى تستشهد بتصريح، مؤخرًا، لنائبة الرئيس السابق، كاميلا هاريس، قالت فيه: «يجب الكسر- وحين نكسر أشياء، أحيانًا نجرح ونُدمِى». من الأدلة على هذا التغير، أن ترشيح الحزب الديمقراطى للشاب المسلم، ذى الأصول الهندية، زهران ممدانى لم يكن من قبيل المصادفة؛ فضلًا عن أن أحدًا من زعماء الحزب لم يعترض على دعوته إلى «عولمة الانتفاضة» (ضد الممارسات الإسرائيلية) ولا على رفضه إدانة «حماس» أو مطالبتها بالتخلى عن سلاحها، ولا على تهديده، حتى، باعتقال مجرم الحرب، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية، إذا جاء إلى نيويورك. وقد عبر مسئولون يهود رفيعو المستوى، محسوبون على المؤسسات والتنظيمات اليهودية بالمدينة، عن صدمتهم وسخطهم إزاء ما أسماه، شلومو شامير، دعم ساسة كبار من زعماء الحزب الديمقراطى فى نيويورك لترشح ممدانى وتفاخرهم حتى بذلك. نحن، إذًا، أمام واقع جديد أصاب يهود أمريكا بصدمة وقلق، عبًّر عنهما حاخام كبير من حاخامات الطائفة اليهودية فى نيويورك، بقوله: "لم أتصور أن مقولة 'من الصعب أن تكون يهوديًا' ستكون واقعًا ملموسًا، وبخاصة فى مدينة يهودية مثل نيويورك"؛ وأمام بوادر وإرهاصات تشير إلى تغير فى المعادلة التى سادت عقودًا. تعددت الأسباب، التى أدت إلى بوادر تغير فى نظرة قطاع لا بأس به من الشباب الأمريكى إلى إسرائيل، وهو تغير لا يبدو، طبقًا للمؤشرات، عابرًا، وإنما تغير مرشح للتصاعد.