أعلن زهران ممدانى، عضو مجلس ولاية نيويورك ذو ال33 عامًا والذى يصف نفسه بالاشتراكى الديمقراطى، فوزه فى الانتخابات التمهيدية الديمقراطية لمنصب عمدة نيويورك فى يونيو 2025، بعد إقرار الحاكم السابق أندرو كومو بالهزيمة. ممدانى الذى يعد مسلمًا من أصل هندى لم يكن معروفًا على مستوى المدينة قبل عام، لكنه شكّل ائتلافًا تقدميًا واسعًا وفاق أداؤه التوقعات. فى خطاب النصر، تعهد بأن يكون «عمدة للجميع»، وبأنه «لن يتخلى عن معتقداته» بشأن القضايا الدولية؛ كونه معروفًا عنه أنه مناصر للقضية الفلسطينية. وهو ما يجعل فوزه لافتًا؛ لأن نيويورك تضم أكبر عدد من اليهود فى العالم، وأشارت المؤشرات الأولية إلى صدمتهم من انتصاره داخل الحزب الديمقراطى الذى لطالما كان حليفًا قويًا للوبيات اليهودية فى نيويورك. وأثار ذلك التساؤلات حول قدرة «ممدانى» على الفوز بالمنصب وما سيعنيه هذا لعلاقة اللوبيات اليهودية والحزب الديمقراطى. جاذبية ممدانى والشعبوية الاقتصادية اعتمد ممدانى فى حملته الانتخابية برنامجًا تقدميًا قائمًا على الشعبوية الاقتصادية؛ فقد وعد بتوفير حافلات مجانية فى المدينة ورعاية أطفال مجانية، وتوفير متاجر بقالة مدعومة حكوميًا فى كل حى، وتجميد إيجارات الشقق ذات الإيجار الثابت، وتوفير 200 ألف وحدة سكنية جديدة بأسعار معقولة بتمويل من ضرائب أعلى على الأثرياء. وخلال فترات ولايته الثلاث فى المجلس التشريعى للولاية، حظى أداؤه باستحسان لتوسيعه خدمة الحافلات المجانية فى منطقة كوينز، ودفعه بمبادرات جريئة، مثل اقتراح منع تمويل الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية من أموال الدولة. وقد عززت هذه السياسات مكانته لدى عديد من الناخبين الشباب فى المناطق الحضرية. فقد حاز ممدانى على تأييد الناخبين فى الانتخابات التمهيدية برسالة متفائلة تركزت على تكلفة المعيشة مدعومة بحملة شعبية واسعة النطاق ضمت آلاف المتطوعين. وساعدته براعته فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، وجاذبيته - بمساعدة والدته المخرجة الشهيرة (ميرا ناير)- على التفوق على منافسيه. من جانب آخر، فوالده، محمود ممدانى، هو ناشط سياسى يسارى بارز، وشكلت مسيرته الشخصية والفكرية بعمق رؤية ابنه للعالم. وُلد ممدانى الأب فى بومباى ونشأ فى أوغندا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1974، وهو باحث فى الاستعمار والإبادة الجماعية والحقوق المدنية، وله أدوار قيادية فى معهد ماكيريرى للبحوث الاجتماعية وجامعة كولومبيا. وتنعكس هذه التوجهات بوضوح فى شعبوية زهران الاقتصادية، وموقفه الثابت تجاه غزة، وأسلوبه فى التعبئة الشعبية؛ مما يساعده على التواصل بصدق مع الدوائر الانتخابية المتنوعة والمتزايدة ذات الميول اليسارية، وتحفيز جيل جديد من الناخبين التقدميين. وتفسر عدة عوامل فوز ممدانى ومنها؛ أولًا: أن الديمقراطيين فى نيويورك كانوا متعطشين لوجه جديد وسياسات تحظى بشعبية كبيرة، خاصة فى الجانب الاقتصادى. وقد خاطبت مقترحاته الاقتصادية الناخبين المنزعجين من ارتفاع الإيجارات والتضخم، وجاء ما يقرب من نصف دعمه من الأحياء الفقيرة. أما العامل الثانى: فهو أن ممدانى استفاد من نقاط ضعف منافسه أندرو كومو الذى دخل السباق كمرشح مفضل لدى الديمقراطيين، ولكنهم فى الوقت ذاته استاؤوا من فضائحه الأخيرة وسمعته كواحد «من الحرس القديم». وتوددت حملة كومو لسجل قوى مؤيد لإسرائيل، لكن صورته كسياسى تلاحقه مزاعم الفساد والمضايقات أبعدت الديمقراطيين الشباب والأقليات. أخيرًا: حفّزت حملة ممدانى الدوائر الانتخابية التقدمية وغير التقليدية. وحظى بدعم قوى من الشباب الجامعيين وعديد من الجاليات المسلمة والمهاجرة. وشكّل رفضه التراجع عن حقوق الفلسطينيين ووصفه الهجوم الإسرائيلى على غزة بالإبادة الجماعية، وتأكيده اعترافه بوجود إسرائيل ولكنه يرفض هويتها كدولة يهودية نقطة حشد قوية؛ رغم مخاوف الديمقراطيين من أن ينفر الناخبون من هذا الخطاب. باختصار، جمع ممدانى بين الجاذبية الاقتصادية اليسارية التقليدية وموقفه الجرىء تجاه غزة؛ وهو مزيج أكسبه إقبالًا حماسيًا فى الدوائر الانتخابية الرئيسية. وعلى الجهة الأخرى، استغل الرئيس دونالد ترامب شخصية ممدانى وخلفيته لمهاجمته؛ إذ وصفه بأنه «مجنون شيوعى 100٪»، وبأنه «مسلم اشتراكى». بما أبرز الانقسام السياسى فى الولاياتالمتحدة؛ فالمرشح الجمهورى للمنصب، كورتيس سليوا داعم قوى لإسرائيل. ويبدو أن تعليقات ترامب تهدف إلى تحويل الناخبين المؤيدين لإسرائيل والوسطيين ضد ممدانى. يعكس هذا التناقض إعادة تنظيم أوسع؛ حيث ينظر بعض الناخبين الديمقراطيين إلى موقف المرشح من غزة كمؤشر رئيسى على الأصالة، فى حين أن قادة حزبهم كانوا تقليديًا داعمين لإسرائيل. وتشير استطلاعات الرأى إلى أن التعاطف الديمقراطى قد تحول بشكل حاد نحو الفلسطينيين؛ لذا استغل ترشيح ممدانى الانقسام الحزبى المتزايد؛ مما يشير إلى أن فوزه أصبح رمزًا مثيرًا للجدل؛ فبالنسبة للجمهوريين، يؤكد فوزه روايتهم عن انجراف الديمقراطيين إلى أقصى اليسار، بينما يسلط الضوء على الانقسامات الداخلية حول السياسة الخارجية والقيم الإنسانية بالنسبة لعديد من الديمقراطيين. صدمة اللوبيات اليهودية فى نيويورك أثار فوز زهران ممدانى استياءً وصدمة لدى المؤسسات اليهودية فى نيويورك والنشطاء والسياسيين اليهود. كما حذر قادة أرثوذكس من أن خطاب ممدانى بشأن غزة وإسرائيل يحول معاداة السامية إلى تيارٍ سائد، وتعهدوا بمحاسبته إذا شعر يهود نيويورك بعدم الأمان. فى الوقت نفسه، رأى بعض القادة اليهود التقدميين صعود ممدانى بشكل مختلف، معتبرين إياه مؤشرًا على أن اتباع خط إسرائيلى معين لم يعد عائقًا أمام الفوز بمنصب على مستوى المدينة. واحتفت جماعات يهودية يسارية بإمكانية فوز ديمقراطى معارض للانتهاكات الإسرائيلية. وفى الممارسة العملية، أبدى ممدانى نبرة تصالحية من خلال الوعد بخدمة جميع الدوائر الانتخابية، رغم إصراره على عدم تخليه عن معتقداته فى الشؤون الخارجية. تاريخيًا، استقطب ديمقراطيو نيويورك أصوات اليهود والمانحين من خلال إظهار دعمهم القوى لإسرائيل؛ إذ يشكل اليهود حوالى 16٪ من سكان المدينة، وكان دعم الجماعات اليهودية أمرًا حيويًا منذ فترة طويلة. أما الآن، فيشير فوز ممدانى إلى أن عديدًا من الناخبين الديمقراطيين، وخاصة الشباب، لديهم أولويات مختلفة. ودخلت بعض اللوبيات اليهودية فى حالة من القلق من أن يمثل هذا نقطة تحول جذرية فى مكانة إسرائيل داخل الحزب الديمقراطى، لا سيّما وأن هذا النفوذ قد قل بفعل القوة المتنامية للمسلمين الأمريكيين ونفور التقدميين من سياسات إسرائيل. وقد تدفع جماعات الضغط اليهودية التقليدية الحزب الديمقراطى إلى إعادة تأكيد التزاماته المؤيدة لإسرائيل؛ خوفًا من تنفير ناخبيهم. وفى المقابل، من الصعب الجزم بإمكانية أن تحدث الانتخابات انقسامًا دائمًا بين جماعات الضغط اليهودية والحزب الديمقراطي؛ فعلى المدى القصير، أشاد عديد من كبار الديمقراطيين بتحفظ بتركيز ممدانى على الجانب الاقتصادى، لكنهم امتنعوا عن تأييده بشكل مباشر. ويشير ذلك إلى أنهم سيحاولون الموازنة بين جاذبيتهم للشرائح المؤيدة لإسرائيل والتقدمية من الناخبين. مع ذلك، قد يصبح المانحون اليهود أكثر حذرًا، إدراكًا منهم أن شريحة كبيرة من القاعدة الديمقراطية تهتم الآن بحقوق الفلسطينيين. وإذا رشح الديمقراطيون مزيدًا من المرشحين مثل ممدانى فى الانتخابات المستقبلية، فقد يميل بعض المانحين اليهود نحو الجمهوريين، أو يمولون الديمقراطيين الوسطيين. من ناحية أخرى، لم يحصل ممدانى إلا على نحو 20٪ من أصوات اليهود فى المدينة. وقد تُضاعف المؤسسات اليهودية فى نيويورك جهودها للتواصل مع الناخبين لضمان عدم تجاهل مخاوفهم فى عام 2025 وما بعده. أما على الصعيد الوطنى، تولى جماعات الضغط اليهودية اهتمامًا بالغًا بهوية المرشحين للمناصب المهمة، فعادةً ما تحجم جماعات مثل لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) عن دعم مرشحين معينين من كلا الجانبين. إلا أن ظهور جيل جديد من المشرعين التقدميين المناهضين للصهيونية أو المؤيدين للفلسطينيين يجعل من المرجح أن يعيدوا النظر فى استراتيجياتهم. وهناك بالفعل علامات قلق؛ حيث أعلن استراتيجيو الحزب الجمهورى أن ممدانى هو «الوجه الجديد للحزب الديمقراطي» لتنفير الناخبين فى الدوائر المتأرجحة. ومن المتوقع أن يراقب المانحون والناشطون اليهود كيفية توفيق الديمقراطيين بين هذه التوترات. إمكانية التحول فى السياسة الأمريكية يتجاوز فوز ممدانى مجرد صراع سياسى فى نيويورك، فهو يشير إلى إمكانية تحول فى المواقف فى السياسة الأمريكية بشكل عام. وتظهر استطلاعات الرأى أن التعاطف العام قد تحول بشكل ملحوظ نحو الفلسطينيين خلال حرب غزة، وخاصة بين الديمقراطيين. ولأول مرة منذ عقود، ينظر أقل من نصف الأمريكيين إلى إسرائيل بإيجابية، ويقول ما يصل إلى 35٪ من الديمقراطيين إنهم يشعرون بتعاطف أكبر مع الفلسطينيين. فى غضون ذلك، بدأ حتى بعض المحافظين المؤيدين لترامب بانتقاد السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط لما يفرضه على واشنطن من تكاليف مادية؛ مما يشير إلى تنامى المشاعر المناهضة للتدخل فى أوساط اليمين أيضًا. ويشير إجمالًا إلى تآكل -لا يزال هامشيًا- للدعم غير المشروط لإسرائيل من الحزبين فى الكونجرس. إذا استمر هذا الاتجاه فقد يُجرى الحزبان الرئيسيان تعديلات فى تحركاتهما؛ فقد يركز الديمقراطيون بشكل أكبر على حقوق الإنسان فى السياسة الخارجية ويتبنون القضية الفلسطينية إذا اعتقدوا أنها تنشط قاعدتهم الانتخابية. فيما قد يضاعف الجمهوريون تعهداتهم المؤيدة لإسرائيل لاستقطاب الناخبين التقليديين. وستراقب جماعات الضغط اليهودية وقادة إسرائيل هذه التحولات بحذر لضمان الوقوف بصف الجانب الذى يضمن مصالحهم بشكل أكبر، وهو ما قد يشير إلى بداية تحولات فى موازين السياسة الداخلية الأمريكية؛ مما سيؤثر بدوره على السياسة الخارجية، إلا أن هذه الاحتمالية لا تزال بعيدة. ورغم كل ذلك، لايزال من المبكر التنبؤ بإمكانية فوز زهران ممدانى بمنصب عمدة نيويورك، ولكن من المؤكد أن تحركات اللوبيات وجماعات الضغط اليهودية فى نيويورك ستكون عاملًا مهمًا فى حسم النتيجة؛ فإذا تحرك الحزب الديمقراطى لضمان استمرار تحالفاته القوية مع هذه اللوبيات وتقديم ضمانات بألا يكون صعود ممدانى اتجاهًا عامًا فى الترشح للمناصب الأكثر حساسية، فمن الممكن أن تتغاضى هذه الجماعات بدرجة ما عن خطابه المناهض لإسرائيل، خاصة أنه بحكم منصبه لا يمتلك صلاحيات تؤثر فى شكل العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. أما فى حالة لم يتحرك الحزب الديمقراطى فى هذا الاتجاه، وشجع صعود ممدانى سياسيين آخرين بالتوجهات نفسها لمناصب حكام ولايات أو أعضاء فى الكونجرس، من الممكن أن نرى تقاربًا أكبر بين الحزب الجمهورى واللوبيات اليهودية؛ مما سينتج انقسامًا بين الحزبين وبين قواعدهما فى قضية جوهرية كانت من النقاط القليلة التى يتفق عليها الحزبان. فى الختام، يعكس فوز زهران ممدانى فى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى تصدّعًا فى التحالفات التقليدية بين الديمقراطيين واللوبى اليهودى؛ إذ أظهرت نتائج الاقتراع أن القضايا الاقتصادية التقدمية ومعارضة الحرب على غزة قادرة على حشد قاعدة انتخابية جديدة حتى فى أكثر الدوائر المحافظة بالمدينة تاريخيًا، وأن عصر الإجماع الإسرائيلى فى الحزب الديمقراطى ربما يتجه إلى النهاية، ومن ثم تنتقل النقاشات حول القضية الفلسطينية والممارسات الإسرائيلية من أروقة السياسة الخارجية الأمريكية إلى قلب السياسات المحلية، بما يجعل من هذا الصعود اللافت لزهران ممدانى تحولًا مفصليًا قد تكون له نتائجه طويلة الأمد، لا سيّما إذا ما استطاع حشد أصوات وسطية وكبرى فى الانتخابات العامة وكسر تحكم المانحين التقليديين فى مجرى الحملة النهائية، وشجع صعوده بروز نماذج مشابهة من القوى التقدمية، بما قد يجبر الحزبين الديمقراطى والجمهورى على إعادة صياغة سياساتهما الخارجية والداخلية. ينشر بالتعاون مع المركز المصرى للفكر والدراسات المتقدمة