فى ظل بيئة جيوسياسية تتسم بتزايد التقلب والتنافس، تواجه أوروبا تحديات عميقة تتعلق بالاستقرار السياسى؛ إذ تعانى العديد من بلدانها أزمات داخلية تتجاوز آثارها الحدود الوطنية لتنعكس سلبًا على القوة الجيوسياسية للقارة بأكملها. وتتجلى هذه الأزمات فى الحكومات المؤقتة، وتكرار ظاهرة حكومات تصريف الأعمال الناتجة عن انسحاب الأحزاب السياسية من الائتلافات الحاكمة، إلى جانب تصاعد الخلافات بين مكونات السلطة، وتأثير صعود اليمين المتطرف سواء فى موقع الحكم أم المعارضة. وتُضيف هذه الحالة مزيدًا من التعقيد إلى المشهد الجيوسياسى الأوروبى، فى وقت تبدو فيه الحاجة مُلحّة إلى قدر أكبر من التماسك والوحدة لمواجهة التحولات العالمية. • • • شهدت الدول الأوروبية، فى السنوات الأخيرة، تصاعدًا ملحوظًا فى الأزمات الداخلية التى أدت إلى حالة من عدم الاستقرار السياسى. ففى فرنسا، أدى برلمان شديد التشرذم إلى تعاقب غير مسبوق لحكومات أقلية ورؤساء وزراء خلال نحو عامين. وامتدت ظاهرة التشرذم السياسى إلى دول رئيسية مثل بولندا، حيث يواجه رئيس الوزراء الليبرالى، دونالد تاسك، صعوبات فى التحالف مع الرئيس المحافظ المنتخب حديثًا، كارول ناوروكى، والمدعوم من حزب «القانون والعدالة» اليمينى. فمنذ توليه منصبه فى أغسطس الماضى، استخدم ناوروكى حق النقض ضد عدة قوانين حكومية، منها مشروع قانون لتقديم مساعدات مالية للاجئين الأوكرانيين المقيمين فى بولندا، وتحدى ائتلاف تاسك الوسطى بشأن السيطرة على السياسة الخارجية، خاصة علاقات بولندا مع الولاياتالمتحدة. فى المقابل، لم تتمكن الحكومة الإسبانية من إقرار ميزانية جديدة للعام الثالث على التوالى؛ ما يُعقِّد التخطيط الاقتصادى للدولة على المدى المتوسط ويشل قدراتها الوظيفية. من ناحية أخرى، تُعد مشاركة أحزاب اليمين المتطرف أو دعمها للحكومات الحاكمة سمة بارزة فى المشهد السياسى الأوروبى المعاصر، بما فى ذلك كرواتيا، وفنلندا، والمجر، وإيطاليا، وسلوفاكيا، والسويد. أما فى دول أخرى، فيفرض اليمين المتطرف نفوذه على الأجندة العامة بالرغم من وجوده فى المعارضة؛ حيث يُعد حزب "البديل من أجل ألمانيا" ثانى أكبر قوة سياسية فى البلاد، فيما يواصل اليمين المتطرف فى النمسا ترسيخ سلطته على الأجندة العامة. وتعكس هذه التحولات السياسية اتجاهًا عامًا نحو مزيد من الاستقطاب والتوتر. • • • يؤثر عدم الاستقرار السياسى الوطنى فى معظم الدول الأوروبية بشكل كبير فى قدرة الاتحاد الأوروبى على مواجهة التحديات الاستراتيجية، وربما يقوّض دوره على الساحة العالمية بطرق عديدة، يمكن إبرازها على النحو التالي: 1- إضعاف التماسك الاستراتيجى والوحدة الأوروبية: يُسهم عدم الاستقرار السياسى الداخلى فى الدول الأوروبية بشكل مباشر فى إضعاف التماسك الاستراتيجى والوحدة على مستوى الاتحاد الأوروبى، خاصةً فى ظل التحولات الجيوسياسية؛ إذ تنشغل الحكومات التى تعانى من أزمات سياسية ووظيفية بإيجاد سُبل تحقيق الاستقرار الداخلى وتجنب سحب الثقة؛ ما يُجبرها على إعطاء الأولوية للملفات الداخلية على حساب نظيرتها الأوروبية. ويُعوق ضعف الحكومات الوطنية قدرتها على التفاوض والتوصل إلى حلول وسط بشأن سياسات الاتحاد الأوروبى؛ ما يؤدى فى النهاية إلى إضعاف الوحدة الأوروبية الشاملة. بالإضافة إلى ذلك، يؤدى التشرذم الداخلى إلى شلل السياسات أو تأخير الإصلاحات الحاسمة على مستوى الاتحاد الأوروبى. فعلى سبيل المثال، أعاق الجمود السياسى فى فرنسا التقدم فى مفاوضات الإصلاح المالى ومبادرات الدفاع الأوروبية. كما تسببت الاختلافات داخل الائتلاف الألمانى السابق فى تأخير الاستجابة المنسقة لأمن الطاقة. وأدت التوترات داخل الائتلاف الإسبانى إلى تنازلات مستمرة أدت إلى تأخير الموافقات على الميزانية، وهى أمور بالغة الأهمية لبرامج التمويل الجماعى للاتحاد الأوروبى. ويُعوق هذا التعطيل سرعة اتخاذ القرارات وبناء التوافق فى الاتحاد الأوروبى، ويُضعف مصداقيته وقدرته على العمل بفعالية. 2- تعطيل التحالفات الرئيسية: يُضعف تصاعد أزمات السياسة الداخلية فى الدول الأعضاء إمكانية استمرار أو توسيع التحالفات الرئيسية داخل أوروبا. فعلى الرغم من الدور المهم الذى أدته فرنسا فى دفع التقدم الجيوسياسى وتشكيل أولويات الدفاع الأوروبية؛ فإن أزمتها السياسية الحالية تهدد بشكل مباشر التحالفات الأمنية الفرنسية، خاصةً شراكتها مع ألمانيا؛ فمِن دون استقرار سياسى فى باريس، تواجه المبادرات الثنائية المشتركة خطر الجمود، بما فى ذلك مجلس الدفاع والأمن الفرنسى الألمانى والبرامج الصناعية الأوروبية الكبرى؛ مما قد يُجبر برلين على العمل منفردة أو البحث عن تحالفات بديلة؛ وهو ما يُقوّض بدوره القدرة الجماعية للاتحاد الأوروبى. بالإضافة إلى ذلك، فعلى الرغم من أن المعاهدات الثنائية الاستراتيجية التى أبرمتها فرنسا مع ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا والمملكة المتحدة، لا تزال تحتفظ بقيمتها الرمزية؛ فإن تأثيرها العملى يعتمد على استقرار الوضع الداخلى فى باريس. وبهذا المعنى، فإن عدم الاستقرار الحالى لا يُقوض نفوذ فرنسا فحسب، بل أيضًا بنية القوة الأوروبية ككل، فمن المرجح أن يظل الرئيس إيمانويل ماكرون منشغلًا بالسياسة الداخلية على حساب الأجندة الأوروبية فى الأشهر المقبلة، بما قد يهدد التزامات الإنفاق الدفاعى والدعم المستمر لأوكرانيا والتغييرات فى الميزانيات، والقدرة على تنفيذ توصيات تقرير ماريو دراغى بشأن القدرة التنافسية لأوروبا، الصادر فى سبتمبر 2024 ومراجعاته فى سبتمبر الماضى، فى وقت يتعين فيه على فرنسا وأوروبا زيادة الاستثمار فى الردع والمرونة. 3- تقويض النفوذ العالمى للاتحاد الأوروبى: تُضعف الحكومات غير المستقرة والاستقطاب السياسى مصداقية الاتحاد الأوروبى وقدرته على التصرف بحسم على الساحة العالمية، حتى فى مواجهة التحديات الاستراتيجية المُلحة المتعلقة بالدفاع والأمن؛ إذ يُصعِّب تشتت الدول الرئيسية على الاتحاد تقديم موقف متماسك بشأن القضايا الدولية الحرجة، مثل الحرب الروسية الأوكرانية أو العلاقات مع الصين، وغيرها. وهذا التشتت فى المصالح الوطنية يُنتج سياسات غير متسقة، ويُضعف القدرة التفاوضية للاتحاد فى مجالات التجارة والتحالفات الأمنية والدبلوماسية؛ مما يُعوق اتخاذ قرارات كبرى، كالمبادرات المقترحة لقرض دفاعى مشترك بقيمة 500 مليار يورو أو استخدام الأصول الروسية المجمَّدة بقيمة 230 مليار يورو لشراء أسلحة لصالح أوكرانيا. من ناحية أخرى، يُغذى عدم الاستقرار الداخلى الحركات القومية والشعبوية التى تُشجع على إعطاء الأولوية للسيادة الوطنية على حساب العمل الأوروبى الجماعى. وهذا التوجه نحو "النزعة السيادية" يؤدى إلى تجزئة مناهج السياسات، وإعاقة إنفاذ سيادة القانون، ويعرقل تنفيذ سياسات متكاملة للهجرة أو المناخ. ومع تزايد نفوذ التيارات الشعبوية فى البرلمانات والحكومات الأوروبية، والدعم المباشر والمتزايد لها من الجانب الآخر من الأطلسي؛ تزداد الصدامات بين الحكومات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ مما يُعقّد جهود صياغة استراتيجيات موحدة وفعالة بشأن الأمن عبر الحدود، والانتقال الأخضر، والتنظيم الرقمى، وحتى الديمقراطية وسيادة القانون. 4- ركود السياسات الاقتصادية والاجتماعية: غالبًا ما تؤدى صعوبات تشكيل الائتلافات وعدم استقرار الحكومات إلى تأخير أو قصور الإصلاحات المحلية؛ مما يؤثر فى الأهداف الاقتصادية الأوسع للاتحاد الأوروبى، بما فى ذلك الصفقة الخضراء الأوروبية ومبادرات التحول الرقمى. ويُترجم الجمود الوطنى فى السياسات المالية والاجتماعية إلى تنفيذ مُجزأ للبرامج على مستوى الاتحاد الأوروبى؛ ما يُقلل من الكفاءة ويُضعف قدرة الاتحاد على تعزيز تنافسيته وتماسكه الاجتماعى داخليًا وعالميًا. خلاصة القول إن قوة أوروبا المُعطلة أصبحت، إلى حد كبير، رهينة لأزمات السياسة داخل الدول الأعضاء، خاصةً الرئيسية منها؛ وهو ما يستوجب على الحكومات الوطنية إعادة التفكير الجاد فى تقديم حلول سريعة وفعالة للتحديات الأساسية التى يواجهها مواطنوها، والمتعلقة بفرص العمل والنمو والتمكين الاقتصادى وغيرها، لأن ذلك السبيل الوحيد لكسب التأييد للتضحيات اللازمة لمواجهة الظروف الجيوسياسية الراهنة. ومن دون ذلك، لن يعمل محرك الاتحاد الأوروبى الجيوسياسى بكامل طاقته إذا كانت تروسه السياسية الداخلية مُعطلة باستمرار. باسم راشد مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة النص الأصلى: