أكد مختصون أن القراءة تظلّ وسيلة أساسية لتغذية خيال الطفل وتنمية مهاراته الذهنية والعاطفية، في وقت باتت فيه الشاشات تسيطر على اهتمام الأجيال الجديدة بما تحمله من محتوى سريع ومثير يحدّ من قدرة الأطفال على التركيز ويضعف تفاعلهم مع القصص والكتب. وشددوا على ضرورة إعادة التوازن إلى حياة الطفل بين الكتاب والتقنيات الحديثة، من خلال الوعي الأسري بطرق تشجيعه على القراءة وتقديم المحتوى المناسب الذي يثير اهتمامه ويحفزه على الاكتشاف. جاء ذلك خلال جلسة بعنوان «بين الكتاب والشاشات: كيف نعيد للطفولة توازنها؟»، ضمن فعاليات الدورة ال44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، بمشاركة الكاتبة نور عرب، وطبيب الأطفال والمهتم بالذكاء الاصطناعي الدكتور معاوية العليوي، حيث ناقش المتحدثان تأثير المحتوى الرقمي في سلوك الأطفال، ودور الأسرة وصناعة النشر في استعادة الكتاب مكانته في حياة الجيل الجديد. تنويع أساليب عرض الكُتب في مستهل الجلسة، أكدت نور عرب أن الاهتمام بالكتاب لم يتراجع رغم انتشار الوسائط الحديثة، موضحة أن «الكتاب الإلكتروني والكتب الصوتية ليست بديلًا عن القراءة الورقية، لكنها وسائل مختلفة لعرض المعرفة»، مشيرة إلى أن الأجيال تتغير وتتطلب من الكتّاب والناشرين تنويع الأساليب التي يُقدَّم بها الكتاب للطفل حتى يحافظ على جاذبيته أمام الإغراءات الرقمية. وقالت: «من واجبنا ككتّاب وناشرين أن نفهم هذا الجيل ونتعرّف إلى متطلباته، وعلى الأهالي أن يمتلكوا الوعي الكافي لتشجيع أبنائهم على القراءة، فالمشكلة ليست في الطفل، بل في الطريقة التي نعرض بها الكتاب». وأضافت أن القراءة لا تقتصر على المهارة اللغوية، بل هي حالة وجدانية يعيشها الطفل مع القصة والخيال، موضحة أن فقدان الشغف هو السبب الحقيقي وراء عزوف الأطفال عن القراءة. وأوضحت عرب أن المقارنة بين الكتاب والشاشة غير منصفة، لأن «الكتاب تجربة مختلفة تمامًا، فهو يحرّك الخيال وينمّي الإبداع ويمنح الطفل حالة من الهدوء النفسي قبل النوم، ويعزز التواصل العاطفي بين الأم وطفلها»، مشددة على أن لا شيء يمكن أن يحل محل تلك التجربة. وأكدت أن اهتمام الطفل بالقراءة يرتبط بجودة المحتوى لا بعدد الصفحات، وأن خلق بيئة محفزة في المنزل والمدرسة أساسي لترسيخ علاقة الطفل بالكتب، مشيرة إلى ضرورة أن تكون زيارات الأطفال للمعارض مصحوبة بخطط واضحة تزرع فيهم شغف اقتناء الكتب وقراءتها. وتابعت: «يجب أن نبتكر وسائل جديدة لإقناع الأطفال بأهمية الكتاب في حياتهم، فالمنافسة اليوم مع الشاشات ليست سهلة، لكن يمكن تحويل القراءة إلى متعة من خلال الحوار والمشاركة والتفاعل». وأضافت أن مستقبل الكتاب يسير نحو التفاعل، قائلة: «بعد عشر سنوات أعتقد أننا سنرى مجالًا أوسع للكتب التفاعلية التي تمزج بين الورق والتقنية، لكنني أؤمن بأهمية الحفاظ على الملمس الورقي، فهو يمنح الطفل إحساسًا حقيقيًا بالقرب من القصة». تأثير الشاشات والقراءة على الدماغ من جانبه، تحدث الدكتور معاوية العليوي عن التأثيرات العلمية للشاشات على دماغ الطفل، موضحًا أن مشاهدة المقاطع الملوّنة والسريعة تؤدي إلى إفراز هرمون الدوبامين الذي يمنح الطفل شعورًا مؤقتًا بالسعادة، لكنه بمرور الوقت يقلل قدرته على التركيز والتخيّل. وقال: «كلما زاد تعرض الطفل للمحتوى السريع، قلّ اهتمامه بالنشاطات الطويلة، لأن دماغه يعتاد البحث عن المتعة اللحظية». وأشار العليوي إلى أن القراءة تُعيد تدريب الدماغ على الصبر والانتباه، وتغذي الخيال بعمق أكبر، موضحًا: «حين يقرأ الطفل، هو لا يستهلك محتوى جاهزًا، بل يشارك في بناء الصورة داخل ذهنه، ولهذا تنمو قدرته على الإبداع». وأضاف أن الجيل الحالي يتمتع بذكاء وسرعة حفظ ملحوظة، لكنه يعاني من الملل السريع، ما يستدعي البحث عن وسائل جديدة لجذبه إلى عالم الكتاب، مثل توظيف الألعاب والقصص التفاعلية والمناقشات الممتعة حول ما يقرأه. وكشف العليوي عن وجود أساليب طبية حديثة تساعد الأطفال على التركيز في القراءة، منها طريقة «5 في 5 في 5»، التي تقوم على قراءة الطفل لخمس دقائق ثم أخذ استراحة لخمس دقائق والعودة للقراءة خمس دقائق أخرى مع تلخيص ما فهمه، وهي طريقة فعّالة تربط بين التدريب الذهني والمتعة. كما أشار إلى ظهور ما يُعرف ب«الكتاب الذكي» الذي يتغير محتواه وفق عمر الطفل، ويمكن أن يطرح عليه الأسئلة ويتيح له تغيير نهاية القصة، موضحًا أن هذا النوع من الكتب سيشهد انتشارًا أكبر في المستقبل مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، لأنه يجمع بين متعة الورق وتفاعل الشاشة. واختُتمت الجلسة بالتأكيد على أن التحدي اليوم لا يكمن في إبعاد الأطفال عن الشاشات، بل في تعليمهم كيف يوازنون بين العالمين، وأن مسؤولية الأسرة والمعلمين والناشرين تتكامل لترسيخ علاقة صحية ومتجددة بين الطفل والكتاب، باعتباره مصدرًا أصيلاً للخيال والمعرفة والنمو الإنساني.