بعد مرور عام تقريبًا على انتخابات 2024 فى أمريكا والتى أعادت الرئيس السابق، دونالد ترامب، ما زالت بعض نوافذ البيوت فى الأحياء الليبرالية بمدينة فيلادلفيا تحمل لافتات تأييد نائبة الرئيس الأسبق، جو بايدن، كامالا هاريس، والتى خاضت معركة شرسة ضد «ترامب» فى الانتخابات، كأنها بقايا حلم لم يفق أصحابه بعد من صدمته. لعل ذلك كان بسبب فوز «ترامب» للمرة الثانية فى السباق الرئاسى، والذى ترك كثيرين من مؤيدى «هاريس» فى حالة إنكار، عاجزين عن استيعاب ما جرى أو تفسير أسباب الهزيمة. غير أن الصدمة الأكبر كانت من نصيب كامالا هاريس نفسها؛ ففى ليلة الانتخابات، كانت دائرتها المقربة واثقة من الفوز، حتى إن الكعكات المزينة بعبارة «السيدة الرئيسة» كانت جاهزة، وكان الجميع بانتظار لحظة الاحتفال، ولقد قررت النائبة السابقة مشاركة تجربتها الانتخابية مع القراء عبر كتاب مذكرات جديد بعنوان «107 يوم»، والذى وثّقت من خلاله وقائع التجربة يومًا بيوم، وقالت عنه إنه بمثابة «تشريح سياسى» لتلك التجربة. وقالت «هاريس» عبر المذكرات الصادرة عن دار نشر «سيمون آند شوستر»: «لقد كان ما حدث فى ليلة الانتخابات صادمًا إلى حد كبير، ولم نتحدث أنا وزوجى عن تلك الليلة بعدها أبدًا حتى شرعت فى كتابة هذا الكتاب». وكثيرا ما وُجهت ل «هاريس» اتهامات بالتصنع والافتعال عند حديثها مع الجمهور، وهى ترد فى كتابها بأن هذا النقد ليس سوى وجه من أوجه التمييز ضد النساء، وحين واجهها أحد الإعلاميين بأنها بدت وكأنها «مُعدة للكلام مسبقًا» خلال حملتها الانتخابية، فأجابت بأن ذلك «انضباط» فحسب. وتخللت الكتاب - الذى تربّع على قوائم أمازون لأفضل الكتب مبيعًا هذا الأسبوع - لحظات نادرة من الصدق الإنسانى، أبرزها وصفها لعيد ميلادها الباهت قبل الانتخابات بأيام؛ فقد كانت تنتظر من زوجها لفتة خاصة، لكنه كان مستنزفًا ومنهكًا من جرّاء مساعدتها فى حملة الانتخابات الضخمة فلم يجهز لها شيئًا؛ فانتهى اليوم بمشادة بينهما، وفى هذه الصفحات ظهر الوجه الإنسانى ل «هاريس» ليس كسياسية بل كامرأة، كما سلط الكتاب الضوء على الأزمات النفسية التى يعانى منها الساسة خلال حملات ترشيحهم لتولى المناصب المختلفة. ولم تخلُ صفحات الكتاب من بعض المرارة تجاه الرئيس الأسبق، جو بايدن؛ إذ يمكن للقارئ أن يتلمس غضبها منه وهى تسرد الأزمات التى تسبّب فيها، كما كشفت عن تفاصيل بعض القرارات السياسية التى اعتبرتها تنم عن سوء الإدارة، وانتقدت وصفه لأنصار ترامب ب«النفايات»، وكان الغضب جليًا عبر الصفحات لأنها لم تُمنح الفرصة الكاملة كنائبة للرئيس. كما نفت «هاريس» وجود أية «مؤامرة فى البيت الأبيض لإخفاء مرض أو وهن «بايدن» كما أشيع، وتصر على أنه كان قادرا على إدارة الولاياتالمتحدة رغم ضعفه، وقد أشارت صحيفة الجارديان إلى بعض المصادر الصحفية التى كشفت عكس ذلك، ومنها ما كشفه الصحفى الأمريكى، جيك تابر، فى كتابه «الخطيئة الأصلية» عن تراجع قدرات «بايدن» بسبب تدهور صحته، وهنا يلوح السؤال: ما الذى لا تزال «هاريس» تحجبه عن القارئ؟ وقالت «هاريس» إنها كانت تلجأ فى لحظات ضعفها خلال الحملة الانتخابية المستعرة ضد «ترامب» إلى القس المحلى لكنيستها الذى شبّهها بالملكة «إستير» فى زماننا، وهى شخصية توراتية إنجيلية معروفة فى العهد القديم، وقد كانت يهودية عاشت فى البلاط الفارسى وصارت ملكة، واشتهرت بأنها أنقذت شعبها من مؤامرة للإبادة بفضل شجاعتها ودهائها. ولم تتطرق «هاريس» عبر كتابها للحديث عن ملف غزة، وقد أظهرت استطلاعات الرأى أن دعم «بايدن» غير المشروط لإسرائيل أضر كثيرا بتأييد الديمقراطيين له، حيث كان «بايدن» خلال فترة توليه الرئاسة هو المسئول المباشر عن السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين، و«هاريس» لم تُبدِ أى تعاطف يُذكر فى هذا السياق. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد أثارت تقييماتها لبعض الشخصيات الديمقراطية استياءً واسعًا؛ إذ وصفت السياسى الأمريكى، بيت بوتيجيج، بأنه «موهوب ولكن مثليته الجنسية عائق أمام ترشحه»، وهو سياسى ديمقراطى كان يشغل منصب وزير النقل فى إدارة «بايدن»، وقد ذاعت شهرته فى الأوساط السياسية الأمريكية عندما خاض الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى عام 2020 كأول مرشح مثلى الجنس بشكل علنى. كما وصفت السياسى الأمريكى الديمقراطى، جوش شابيرو، بأنه «شخصية أنانية»، وهو يشغل حاليًا منصب حاكم ولاية بنسلفانيا، ويُعتبر من الأسماء الصاعدة فى الحزب الديمقراطى، ومرشح محتمل مستقبلا للرئاسة. وفى الختام، لم يقدم الكتاب العزاء المرجو لأنصار «هاريس» الذين انتظروا من المذكرات بارقة أمل أو رؤية لمستقبل الحزب؛ حيث يبدو أن «هاريس» ما زالت عالقة بين الشعارات الكبيرة لحملتها الانتخابية التى لم يسعها القدر لتنفيذها، والحقيقة التى لم تجرؤ بعد على مواجهتها كاملة.