خلال اليومين الماضيين انعقدت قمة منظمة شنغهاى للتعاون فى الصين، وجمعت الرئيس الصينى شى جينبينج، والروسى فلاديمير بوتين، ورئيسَ وزراء الهند ناريندرا مودى. وقدمت القمة مشهدًا لمعسكر يسعى إلى رفع شعار «التعددية القطبية» و«الجنوب العالمى» فى مواجهة الغرب. لكن السؤال الكبير يظل مطروحًا: هل تستطيع بكينوموسكو فعلًا صياغة نظام عالمى جديد؟ إذا عدنا قليلا إلى الوراء، نجد أن العالم عرف تجربة سابقة فى الحرب الباردة، حين نجح الاتحاد السوفيتى فى فرض توازن حقيقى مع واشنطن. كان هناك قطبان متقاربان فى القوة العسكرية والأيديولوجية، يوزعان النفوذ ويضعان قواعد اللعبة. أما اليوم، فالوضع مختلف. روسيا لم تعد الاتحاد السوفيتى، واقتصادها لا يتجاوز حجم اقتصاد إيطاليا. أما الصين، على الرغم من قوتها الاقتصادية الهائلة، فما تزال مرتبطة بالأسواق الغربية والتكنولوجيا الغربية ارتباطا يجعلها مترددة فى الذهاب بعيدًا فى مواجهة مفتوحة. خذ مثلًا ما جرى قبل أسابيع، حين تعرضت إيران الحليف المهم لكلٍّ من الصينوروسيا لضربات عسكرية. لم تستطع موسكو ولا بكين أن تفعلا شيئًا لمنعها. وهذا يوضح حدود قوتهما: كثير من الخطابات عن «التصدى للهيمنة» و«رفض الأحادية»، لكن قدرة الفعل على الأرض ما تزال محدودة. فالنظام العالمى لا يُبنى بالشعارات، بل بالقدرة على حماية الحلفاء وفرض قواعد جديدة. • • • منظمة شنغهاى للتعاون، التى توسعت لتشمل دولًا كالهندوإيران وتركيا كمراقب، تبدو للوهلة الأولى كتجمع منافس لحلف الناتو أو مجموعة السبع. لكن الحقيقة أن المنظمة ما زالت تفتقر إلى أدوات إلزامية أو رؤية واضحة. هى أقرب إلى منتدى واسع من المصالح المتباينة: الصين تسعى إلى قيادة اقتصادية، وروسيا تبحث عن دعم سياسى وسط عزلتها الغربية، والهند تريد الموازنة بين الجميع، وإيران تسعى إلى مظلة تحميها من الضغوط. ومن الصعب أن يتحول هذا الخليط إلى نظام عالمى متماسك. المعادلة بين بكينوموسكو نفسها غير متوازنة. فروسيا، التى تخوض حربًا طويلة فى أوكرانيا، صارت أكثر اعتمادًا على الصين، سواء فى الطاقة أو فى التجارة أو حتى فى السلع التى تحتاجها صناعتها العسكرية. بينما تتعامل الصين معها من موقع الشريك الأقوى، لكنها فى الوقت ذاته لا تريد أن تتحمل فاتورة المواجهة الكاملة مع الغرب. لذلك تراها ترفع شعارات «التعددية» و«الجنوب العالمي»، لكنها تتجنب الدخول فى تحالفات عسكرية رسمية قد تكلفها عقوبات أوسع أو عزلة اقتصادية. • • • الهند أيضًا تُعقّد المشهد. فهى ثالث أكبر اقتصاد فى آسيا، وتملك وزنًا سكانيًا وسياسيًا هائلًا. لكنها لا تنتمى بوضوح إلى أى معسكر. فهى تستورد النفط الروسى بأسعار منخفضة، وتبحث عن تعاون اقتصادى مع الصين عندما تضغط واشنطن عليها بالرسوم الجمركية، لكنها فى الوقت نفسه تبقى قريبة من الغرب فى مجالات التكنولوجيا والأمن. وجود الهند فى أى محور صينى روسى سيظل هشًا ومرهونًا بمصالح متغيرة، ما يعنى أن مشروع «النظام البديل» يفتقر إلى العمود الفقرى الذى كان يمثله الاتحاد السوفيتى فى الماضى. صحيح أن الصينوروسيا تنجحان فى إرباك الغرب. المناورات العسكرية المشتركة، والتلويح بتحالف مع كوريا الشمالية، والحديث عن نظام مالى بديل للدولار، كلها خطوات تزيد من قلق واشنطن وحلفائها. لكنها أقرب إلى أدوات ضغط وتشويش، لا إلى لبنات لبناء نظام عالمى جديد. فمن أجل أن يُكتب لهذا النظام النجاح، لا بد أن يقدم للعالم عرضًا جذابًا: مؤسسات واضحة، وقواعد متفقًا عليها، ومنافع اقتصادية وأمنية عامة، وهو ما لم يتبلور حتى الآن. • • • الخلاصة أن العالم يسير نحو مزيد من التعددية والتشظى، لكن دون مهندس واحد ولا معسكر قادر على فرض القواعد. قد نرى مناطق نفوذ جديدة للصين وروسيا، وقد يزداد الضغط على النظام الغربى التقليدي، لكن الحديث عن «نظام عالمى جديد» بقيادة بكينوموسكو يبدو مبالغًا فيه. نحن أمام عالم مضطرب، متعدد الأقطاب، لكنه بلا قطب واضح يقود. النظام القادم إن ظهر لن يكون أمريكيًا خالصًا كما كان بعد الحرب الباردة، ولن يكون صينيًا روسيًا كما تحلم به موسكووبكين. إنه عالم مفتوح على احتمالات كثيرة، حيث يمكن للجميع أن يعرقل، لكن لا أحد يستطيع أن يضع القواعد بمفرده.