• الكاتب يتنافس على أثمن وأندر سلعة فى الحياة وهى الوقت.. • فى قصة «حواديت الآخر» كانت أول مرة أجد فيها صوتى الخاص.. وأتحرر من أسر وسطوة يوسف إدريس • الشكل الأدبى الذى كتبت به «لسان عصفور» شديد الصعوبة ويعرف بالقصة الومضة • وجود نجم كبير مثل محمد المخزنجى دفع كتاب جيلنا إلى أن يخرجوا أفضل ما عندهم. • بدأت رحلة الكتابة منذ الطفولة، وجدتى أمينة حسن كانت قارئتى الأولى • يوسف إدريس هو من قدّم مجموعتى القصصية الأولى بمقدمة لم أكن أعلم عنها شيئًا، بينما حدث ذلك بالصدفة • صلاح جاهين كان الراعى لى فى اهتماماتى الأدبية وكتاباتى، وقدّم لى نصيحة عمرى • كان نفسى أكون شاعرا، لكن لم تكن عندى الموهبة، فوجدت أن قالب القصة القصيرة هو الأقرب إلى جوهر الشعر • أتابع الجوائز الأدبية، لكنها ليست المعيار الوحيد للحكم على العمل من بين الإصدارات المتنوعة التى صدرت عن دار الشروق فى معرض القاهرة الدولى للكتاب لهذا العام 2025، كانت لنا وقفة طويلة أمام كتاب لسان عصفور، الذى صدر أثناء فعاليات المعرض.
أميرة أبو المجد، العضو المنتدب بدار الشروق، تهتم بكافة الإصدارات، وتتميز بحضورها اليومى لفعاليات المعرض، والتواجد بين جناحى الدار للوقوف على انطباعات القراء ولقاء الكتاب. لكن يظل أهم ما يميز حضورها هو شغفها بالحديث عن الإصدارات الحديثة واستطلاع آراء الزوار حولها ومدى أهميتها. كنت واحدة من هؤلاء المحظوظين بهذا الشغف، الذى اختصر فى حديث جانبى مطول ومفصل عن الإصدارات، لكنها خصت بشغف القارئة التى عثرت على نص ثرى الحديث عن كتاب لسان عصفور. أشادت بالقدرة المذهلة للكاتب على تكثيف أحداث القصة، حتى إن بعض النصوص يمكن أن تعد كلماتها على أصابع اليدين، وبالرغم من ذلك يصل المضمون والمعنى شاملا نواحى الحياة بمتاعبها وأفراحها وذكرياتها وماضيها وحاضرها وما ينتظرنا فى المستقبل، فهذا الكتاب يحمل بين دفتيه فنا نادرا من فنون السرد. زادنى الحظ سعادة بحضور مؤلف الكتاب، الأستاذ حسام فخر، أثناء حديثنا، فازداد حماس السيدة أميرة أبو المجد للحديث عن العمل، وأهدتنى نسخة موقعة منها ومن الكاتب، بدأت قراءتها قبل مغادرتى المعرض وخلال رحلة العودة إلى المنزل. ومرت الأيام، وأعلن الأستاذ حسام فخر عن كواليس نشر الكتاب وإصداره عن دار الشروق، من خلال صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك، فى حكاية مفادها علاقة أدبية وإنسانية نادرة جمعته بالكاتب الدكتور محمد المخزنجى. بقدر ما حملت الحكاية التى رواها حسام فخر من وضوح، بقدر ما أثارت فضول القراء: متى وكيف نشأت هذه الصداقة النادرة؟ وأين يقف حسام فخر من صخب الوسط الأدبى؟ وكيف يتفاعل معه؟ ولماذا يفضل فن القصة القصيرة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها حملناها إليه فى هذا اللقاء، ليكشف لنا محطات من مسيرته الأدبية، ويبوح بمفاجآت حول علاقاته بكبار الكتاب، فضلا عن كواليس علاقته النبيلة بالأستاذ محمد المخزنجى التى امتدت لسنوات طويلة قبل اللقاء. قلما نراك فى الفعاليات الأدبية ولا نعرف الكثير عنك بعيدًا عن نصوصك، فهل تسمح لنا بالتعرف أكثر على جوانب من حياتك الشخصية بعيدًا عن عالم الكتابة؟ لأنى تخرجت فى كلية العلوم السياسية، جامعة القاهرة، واشتغلت فى مجال تدريس اللغة والترجمة، ثم انتقلت بعدها إلى العمل فى الأممالمتحدة، حيث عملت فى الترجمة الفورية حتى عام 2019. كيف بدأت مشوارك مع الكتابة فى ظل مشاغلك المهنية، والتنقل الدائم والغربة؟ بدأت منذ الطفولة، كنت أسمع حكايات، وأستيقظ فى اليوم التالى لأكتبها، وأجرى تغييرا واحدا، وهو أن أصبح أنا البطل. ثم قالت لى جدتى، التى كانت قارئتى الأولى: «بطل تكتب الحواديت اللى بتسمعها، وابدأ اكتب الحواديت اللى عاوز تسمعها»، وكانت تعطينى خمسة قروش، وهى ثروة صغيرة فى الستينيات، عن كل قصة أكتبها. ثم فى سن المراهقة، بدأت أقرأ كثيرًا فى مجالات أدبية عديدة، فالقراءة هى هوايتى الأساسية، ومنذ ذلك الوقت وجدت أن قالب القصة القصيرة كأنه يدعونى، يقول لى: هذا هو المجال الذى تستطيع الكتابة فيه. متى قررت أن تخوض تجربة النشر وماذا عن أول أعمالك القصصية؟! لم أكن متحمسا لنشر مجموعتى الأولى، ولها قصة؛ فأنا كنت قد قررت أن أى عمل سأصدره سيكون مهديا إلى صديقتى الأولى، أمينة حسن، جدتى. وفى عام 1985، كانت قد تقدمت فى السن، وتخوفت من أن يقضى الله قدره، فقررت نشرها علشان جدتى تشوفها. فصدرت أول مجموعة عام 1985 بعنوان البساط ليس أحمديًا، عن مطابع الأهرام، وأكرمنى أعظم كتاب القصة القصيرة، الدكتور يوسف إدريس، بمقدمة مذهلة جاءت بالصدفة. وفى بداية التسعينيات، صدرت المجموعة القصصية الثانية بعنوان أم الشعور، عن «مختارات فصول» بالهيئة العامة للكتاب. ذكرت أن الدكتور يوسف إدريس كتب مقدمة لمجموعتك القصصية الأولى بالصدفة، هل يمكن أن تحكى لنا كيف حدث ذلك؟ حدثت هذه الصدفة لأن هناك صلة قرابة تربطنى بصلاح جاهين، وفى نفس الوقت كان أستاذى، والراعى الأساسى فى اهتمامى بالأدب، وفى قراءاتى، وفى كتابتى. فقررت عرض المجموعة على جاهين وأسأله إذا كانت تستحق النشر. أرسلتها إليه فى البريد، وهو تطوع أن يرسلها إلى صديقه، الدكتور يوسف إدريس، لكى يقول رأيه فيها؛ فهو كان شاعرا عظيما، ورساما عظيما، وممثلا عظيما، لكنه لم يكن قصاصا. فقرأها الدكتور يوسف إدريس، وقال له: «أنا عاجبانى جدا وعاوز أكتب لها مقدمة»، وهذا ما حدث دون علمى. وتصادف أن والدى حضر إلى نيويورك، وأحضر لى ورقة مصورة كتب فيها هذه المقدمة، التى أذهلتنى وأرعبتنى. هل أتيحت لك الفرصة للقاء الدكتور يوسف إدريس وجها لوجه بعد أن كتب المقدمة؟ قابلته مرة واحدة بعد صدور المجموعة، حين طلبت موعدا كى ألتقى به وأشكره فقط، ولم يكن لقاء طويلا. لماذا اخترت القصة القصيرة كقالب إبداعى، رغم أن الرواية تحظى بانتشار وإقبال أوسع؟ وهل تفضل فن القصة القصيرة فى القراءة والكتابة؟ فى مقولة تقول إن الرواية هى ديوان العرب الجديد، وأنا طبعا أحب الروايات جدًا، لكن لا أجد نفسى إلا فى القصة القصيرة. أنا كان نفسى أكون شاعرا، لكن للأسف لم تكن لدى الموهبة، فوجدت أن القصة القصيرة هى أقرب أشكال الأدب إلى جوهر الشعر، فأصبحت هى وسيلتى للتعبير عن نفسى. وفى نفس الوقت، مع الزمن، أدركت أن الكاتب يتنافس على أثمن وأندر سلعة فى الحياة، وهى الوقت، وسط وسائل التواصل الاجتماعى، والتليفزيون، والإنترنت، والكرة، والأحداث المتوالية. فشكل العمل الطويل قد لا يكون مناسبا للعصر، والأقصر قد يكون أقرب لروحه. لكنها فى النهاية تفضيلات شخصية. هل يمكن أن تطلعنا على كواليس هذا اللقاء الأول بينك وبين المخزنجى؟ وكيف كان سببًا فى عودتك إلى الكتابة من جديد؟ بالرغم من أننا كنا لمدة 18 عاما نتبادل رسائل المودة والمحبة من خلال أصدقاء مشتركين، لكننا لم نلتق. وحين التقينا قال لى كلمات أشعلت حماسى، وأهدانى كتابه عن كارثة تشيرنوبل. وأنا أقلب فى الصفحات، قلت لنفسى: طيب، «إنت بتقول إن فى أخوة روحية تربط بينكم، وإنكم بتنهلوا من نفس المعين، بالرغم من أن كل منكم بيعبر عنه بطريقة مختلفة. وشاءت الظروف إن واحد يتجه إلى أوكرانيا ويشهد كارثة تشيرنوبل، ويعمل واجبه ويكتب عنها، وإنت تروح نيويورك وتشهد كارثة 11 سبتمبر، ولا تكتب، ولا تتكلم، ولا تقول أى شىء! فعيب عليك». فكانت النتيجة أول عمل، وهو «وجوه نيويورك»، ثم «يا عزيز عينى»، وموضوعها الأساسى هو الغربة، ثم «حكايات أمينة» الذى فوجئت أنه حقق نجاحًا مذهلًا، وأخدت عنه جائزة ساويرس. ثم توقفت مرة أخرى بسبب وظيفتى الجديدة فى الأممالمتحدة، التى أخذت كل وقتى، فكنت أكتب ببُطء شديد. فمنذ 2008 حتى بدايات 2021، صدرت مجموعة «بالصدفة والمواعيد» عن دار العين، ثم «لسان عصفور» التى يعرف الجميع قصتها. لماذا كان اختيارك لمحمد المخزنجى تحديدًا؟ وكيف بدأت تلك الصداقة وهذا الإعجاب؟ بدأت بأن مجموعته الأولى ومجموعتى الأولى صدرا فى نفس الوقت، وأنا قرأت أعماله وانبهرت، وشعرت أن هذا إنسان تربطنى به صلة روحية عميقة، وهناك تماثل شديد فى رؤيتنا للدنيا وإحساسنا بها. ثم صدرت «رشق السكين»، التى أعتبرها واحدة من أعظم المجموعات القصصية التى كُتبت بالعربية. وكان فيها شكل «القصص القصيرة جدًا» الذى كنت أغازله من بعيد. ولنا صديق مشترك هو الأستاذ بهاء جاهين، وبدأنا نتبادل رسائل المحبة من خلاله. وحين التقينا عام 2003، قلت: «القصة دى لها نهايتان: إمّا نصبح أصدقاء، أو تصبح نهايتها الأدبية مثل قصة تولستوى وفلاديمير سولوجوب، اللذين ظلّا يتبادلان رسائل الإعجاب لمدة 20 سنة، وحين التقيا، لم يطق أحدهما الآخر». فالحمد لله، أصبحت النهاية إنسانية وجميلة. هنا لا بد أن يتساءل القراء: كيف أثرت روح التنافس فى العلاقة التى جمعت بينكما؟ وهل كانت عامل تقارب أم تباعد؟ إحنا بنكتب بنفس الطريقة ونفس القالب، فالوضع الطبيعى إننا نكون متنافسين. لكن التنافس له شكلان: فيه شكل بغيض من الغيرة وفيه نوع تانى، اللى هو جزء من روح الفريق، بمعنى إن داخل الفريق الواحد، بيكون فيه روح منافسة، ووجود نجم كبير فى الفريق بيدفع كل أفراد الفريق إنهم يطلعوا أفضل ما عندهم، علشان ما يضيعوش فى وهج نوره. وده أحد أسباب اختيارى إهداء الكتاب له.
من الواضح فى حديثك أنك تكنّ قدرا كبيرا من التقدير ليس فقط للكتّاب السابقين، بل أيضا لكتّاب جيلك. كيف ترى هذه العلاقة؟ الإنسان الذى يرى نفسه «نبتا شيطانيا»، لا صلة له بمن قبله أو بعده أو معه، هذا، فى اعتقادى، خطأ أدبى وأخلاقى. وقد كتبت مرة عن الأستاذ العظيم جدًا، والمظلوم جدًا، محمد حافظ رجب، حين قال: «نحن جيل بلا أساتذة». وأنا أحب قصصه القصيرة إلى أبعد الحدود، لكن قلت: «لأ، مقدرش أقول كده!» ف يحيى حقى، ومحمود طاهر لاشين أجدادى، ويوسف إدريس وأنت آبائى، والبساطى، ومحمود الوردانى، وإبراهيم أصلان، ويحيى الطاهر عبد الله أعمامى، والمخزنجى أخى. أنا مش طالع من فراغ. أنا أقرأ بعين شخص محب للأدب ويطمح أن يكون كاتبا حتى هذه اللحظة. من كثيرين جدًا تعلمت كيف لا يجب أن تكون الكتابة، ومن قلة قليلة تعلمت كيف يجب أن تكون. ومن تعلمت منهم ليس بالضرورة أن يكونوا أكبر منى أو سبقونى، قد يكونوا زملائى أو كتابا جاءوا بعدى. ولدينا شباب يكتبون أعمالاجميلة، وأزعم أنى تعلمت منها. متى بدأت كتابة نصوص مجموعتك الأحدث «لسان عصفور»؟ وما الذى ألهمك لاختيار هذا القالب المكثف فى السرد؟ بدأت الكتابة منذ زمن طويل، أنا معجب جدا بهذا الشكل من الكتابة، وسبق أن كتبته من قبل فى أكثر من قصة فى مجموعة «البساط ليس أحمديًا»، وكنت أتمنى أن أستمر فيه. وقررت، حين أنجح فيه، أن يكون هدية للمخزنجى وكاواباتا. فكنت أعمل على قصة وأتركها شهورا، ثم أعود إليها مرة أخرى، وحين وصلتُ إلى يقين بأنى لن أستطيع أن أكملها بسبب ضيق الوقت، حسيت قد إيه الشكل ده صعب جدًا. مجموعة «لسان عصفور» تتميز بتنوع كبير فى الموضوعات وأسلوب السرد، فهل تختار الموضوع وطريقة السرد قبل أن تبدأ فى الكتابة، أم أن كل ذلك يتشكل لحظة الكتابة؟ هى بالتأكيد وليدة لحظة الكتابة، فأنا لا أخطط مسبقا، فالتخطيط يصلح للمقال أو الدراسة، لكن فى القصة أكتب ما يبعثه الله إلىّ دون حسابات. أما عن السرد، فالشكل عندى تابع للمضمون، لذلك لا أتبنى أسلوبا سرديا ثابتا. القصة هى التى تختار طريقة سردها، وغالبا ما أعيد التدقيق والمراجعة لاحقا، وقد يتغير السرد خلال تلك المرحلة. قصة العيون من أكثر القصص القريبة من واقعنا الحالى وتتمثل فيها حركة العصر، فهل تحمل أيضًا نبوءة للمستقبل؟ هى بالضبط ما تقوله، لقد أصبحنا جميعا معزولين عن بعضنا البعض. فقد يكون أحدنا جالسا فى مجلس، يتحدث مع شخص يبعد عنه آلاف الأميال، بينما لا يتحدث مع من يجلس إلى جانبه. ذلك الإحساس العميق بالوحدة، الذى قد يشعر به الإنسان وسط مجموعة من الناس، كل منهم ينظر إلى هاتفه هو إحساس مؤلم للغاية. فى رأيك هل تعتقد أن هذا الشكل من الكتابة نال ما يستحقه نقديًا؟ حقيقة الأمر أن الحركة النقدية فى مصر فى الوقت الحالى ينقصها الكثير. وأظن أن الأمر لا يتوقف على هذا الشكل فقط، بل يشمل كل الإبداعات الأدبية الجديدة. لا أشعر أن هناك اهتماما نقديا بكل ما يصدر، أو حتى ببعض ما يصدر، فإذا كان هناك نقص فى الاهتمام، فهو يشمل كل الأشكال.