خرح د.أكرم من مصر شابا، وأمضى سنوات فى المعامل الأمريكية لإعداد رسالة الدكتوراه فى علم الهندسة الوراثية. عاد لتدريس علوم الوراثة بالجامعة، لكنه مازال يتابع الأبحاث المثيرة التى تأتى من «أرض الأحلام»، التى غادرها وهو يحمل جوازا أمريكيا، ويتمنى العودة إليها ذات يوم. د.أكرم، الملتحى الحافظ لكتاب الله، احتفى باكتشاف فنتر ورفاقه فى كاليفورنيا، لأنها «تفتح الطريق لإعادة خلق الحياة»، وتبدأ ثورة فى علوم الوراثة، لا يمكن التنبؤ بما قد تصل إليه. هكذا يقرأ العالم المصرى النقلة العلمية الجبارة التى أنتجتها معامل أمريكا، والنتائج الثورية المحتملة بعدها. «تم طرد الساكن الأصلى، والمنزل الآن تحت سيطرة الساكن الدخيل». هكذا يشبه د.أكرم أبوزيد، أستاذ الوراثة بكلية العلوم جامعة قناة السويس، كيفية صنع الخلية الجديدة، فى المعمل الخاص بالعالم الأمريكى كريج فينتر المنزل فى تشبيه د.أكرم هى الخلية البكترية «ميكوبلازما» التى تعيش فى جلد الماعز. والساكن الأصلى هو الحامض النووى الخاص بالخلية، الذى يعرف بالجينوم. أما الساكن الدخيل الذى احتل الخلية هو حامض نووى جديد تم تخليقه فى المعمل على يد فينتر بمساعدة فريقه المكون من 19 عالما من جنسيات مختلفة أحدهم حاصل على جائزة نوبل وهو سميث هاميلتون. يتميز هذا الجينوم المخلق الذى ستحيا به الخلية خلال دورتها الجديدة بأنه بلا سابق مثيل فى الوجود. يشير الأكاديمى الملتحى الحاصل على الدكتوراه من أمريكا جامعة شيكاغو عام 2002، فى مجال الهندسة الوراثية، إلى الخلية المرسومة أمامه على أوراق البحث، « هذه الخلية الصناعية الجديدة ليس لها أب أو أم أو أقارب، لأن الباحثين صنعوها فى المعمل بالاعتماد على برمجة الكمبيوتر». 1 معامل أمريكا البحث العلمى تحت الرقابة يفترش د. أكرم الطاولة الخشبية داخل مكتبه بكلية العلوم، بأوراق البحث الجديد الذى عكف طوال الليل على دراسة نتائجه، ويراه طفرة علمية سعى خلفها فينتر ومساعدوه منذ أكثر من عشرة أعوام. الطاولة المستطيلة القابعة فى مكتب د.أكرم الأمريكى الجنسية، يخصصها لاجتماعه بالطلاب فى مكتبه متأثرا بدراسته فى أمريكا طوال ست سنوات. يقول د.أكرم إن بكتيريا «المايكوبلازما» التى أجرى فينتر التجربة عليها تحتوى على أصغر جينوم على الإطلاق، يتكون من 600 جين. عاش د.أكرم حبيس المنزل أسبوعين، عند وقوع الهجمات الإرهابية فى 11 سبتمبر عام 2002 التى دمرت برجى التجارة العالمية بنيويورك. كان وقتها فى السنة النهائية للدكتوراه، تميزه لحيته التى أطلقها منذ كان معيدا فى قسم علم الحيوان بكلية العلوم. يعترف عالم الأحياء الذى يحفظ القرآن الكريم كاملا عن ظهر قلب، بحبه لأمريكا التى تحتل المرتبة الأولى فى قلبه قبل وطنه. يدافع عن العلماء هناك، «فالأمريكان أبحاثهم موجهة وليست مجرد أفكار عشوائية». ويفسر الخطوات التى يتبعها الباحثون عند الشروع فى تقديم بحث، تدعمه الهيئات الحكومية ماديا، وتراجع فوائده قبل الموافقة عليه، فلا يمكن أن يقول الباحثون فى خطة البحث التى تقدم لمنظمة الأبحاث الأمريكية «إحنا ها نعمل خلية مخلقة معمليا» دون ذكر الفائدة منها فى خدمة المجتمع الأمريكى. توجه أغلب الأبحاث لتغطية احتياجات الدولة، على حد قول د.أكرم، فهم مثلا يعانون من نقص الطاقة ودائما يعملون للتغلب على احتياجهم للدول المنتجة للطاقة، وخصوصا دول الخليج. «هناك حملات تفتيش دورية على المعمل باستخدام التقنيات الحديثة والكلاب، من الجهات المختصة للتأكد من سلامة وشرعية الأبحاث التى تحدث داخل المعمل». هكذا يصف د.أكرم المشهد داخل المعمل البحثى فى أمريكا. حيث تبدأ الحياة تدب داخل المعمل فى تمام السادسة صباحا. يصل الطلاب الباحثون قبل المشرف، الذى يحضر فى تمام السابعة، «طبعا عندنا فى مصر المشرف بيستنى الطالب ييجى من بيتهم». وعندما تدق الساعة الثانية عشرة ظهرا «تحس إن المبنى فيه مصيبة والجميع يهرب»، إلى تناول طعام الغداء بالخارج لأنه يمنع تناول الطعام أو الشراب داخل المعمل. وعلى الباحث العودة بعد نصف ساعة إلى المعمل أو إلى مكتبه المزود بأحدث وسائل الاتصالات بشبكة الانترنت والمعمل والمكتبة الإلكترونية، وهذا فى وصف أكرم «من نعم الله على الإنسان فى أمريكا». ويسمح للطلاب بالسهر داخل المعمل طوال الليل، لمتابعة التجارب، وهذا لا يتوافر فى المعامل المصرية حتى فى المعمل الخاص بالمركز القومى للبحوث طبقا لأكرم. ويتابع المشرف سير العمل يوميا بالمرور على الطلاب، بالإضافة إلى اجتماع أسبوعى دورى إما مع الفريق البحثى، أو مع الجروب الكامل الذى يعمل غالبا فى أكثر من معمل. 2 مغامرة فينتر كائن حى بلا مثيل سابق يشرح د.أكرم من داخل غرفته الخاصة بقسم علم الحيوان، المزدحمة بالزرع والكتب العلمية المكومة على مكتبه بجوار الميكروسكوب، الصعوبات التى واجهت فريق فينتر أثناء نقل الجينوم المخلق إلى داخل الخلية، والتى يشترط أن تكون خالية تماما من الجينوم الأصلى لأنه لا يمكن أن تعيش الخلية تحت سيطرة اثنين من الجينوم، لأن «المركب اللى فيها ريسين بتغرق» على حد وصف د.أكرم. وفى رأيه أنه لا يمكن تفريغ الخلية تماما، قبل وضع الجينوم الجديد، لكن هذا حدث بالفعل فى تجربة النعجة دوللى، حيث تم تفريغ البويضة تماما من الجينوم. بدأت تجربة فينتر المثيرة بتفريغ الخلية من كل الجينات غير اللازمة للتجربة، والاحتفاظ فقط بالجينات اللازمة لحياة البكتريا، منها الجين المسئول عن حمايتها من الشيخوخة حتى تقضى الدورة الخاصة التى تعيشها، والجين الخاص بالتكاثر. ويتم ذلك عن طريق استخدام تقنية الاختيار من بين الجينات الأصلية للخلية. قام الباحثون أيضا بسحب إنزيمات التقطيع، وهى الآليات الرافضة لأى دخيل، حتى لا تقوم بتكسير الوافد الجديد، الذى زودوه بهذه الإنزيمات ليهاجم بها الجينوم الأصلى ويطرده من الخلية، مع الإبقاء على حياتها تحت سيطرته. بعد إدخال الحامض النووى الجديد إلى الخلية، أصبحت تحتوى على اثنين من الجينوم أحدهما أصلى والآخر دخيل مخلق ليس له مثيل فى الحياة، وبدأ الدخيل يهاجم الجينوم الأصلى حتى تم تقطيعه وتلاشى تماما. وهنا ظهرت خلية بكتيرية واحدة صمدت وتلونت باللون الأزرق، من ضمن الآلاف من المستعمرات البكتيرية البيضاء التى تخلصت من نفسها خلال التجربة، لشعورها بالجينوم الدخيل. . خلية فينتر الإصطناعية «استطاعت أن تطرد الجينوم صاحب البيت وتنحيه وتعمل بالجينوم الجديد الدخيل الذى صنعه الباحث». وزوده بجينات لم تعرفها الخلية البكتيرية من قبل، ليؤكد للعالم كله أن الخلية الجديدة، ليس لها مثيل على حد تفسير د.أكرم. يشير بقلمه إلى صورة الجينوم المعلقة باللون الأبيض والأسود على الحائط فى مكتبه، قائلا «إن عملية تخليق DNA فى المعمل أمر سهل». بعد ذلك يلجأ فريق العمل إلى فطر الخميرة، لتجميع الجينات المختلفة الخاصة بالحامض النووى الجديد معا بشكل يظهر متماسك. يرى د.أكرم أن تقليل الباحثين للجينات داخل الحامض النووى الجديد المخلق، راجع إلى الخوف من الخطأ، لأنه «كلما زادت الجينات زادت نسبة الوقوع فى الخطأ». 3 والمستقبل من المصل إلى تخليق الإنسان العلم فى حالة حركة دائمة، ولا أحد يستطيع أن يوقف أبحاثه، لأنها لا تقف عند باحث أو معمل أو دولة. يستشهد د.أكرم بالآية الكريمة ليدلل على رؤيته، قال تعالى «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق». وفى رأيه هذه دعوة من الخالق للاستكشاف والبحث. «تجنب الناس الذين يرددون دائما مستحيل أو لا يمكن» بهذه الحكمة يتمسك العلماء فى رأى د.أكرم، لأنها أحد أسباب نجاح التجارب البحثية. ولا يتوقع فشل التجارب، لأن هناك دائما خطة للبحث، تأتى نتاج بناء علمى مدروس ومخطط. لذلك يكون الباحث على يقين من الوصول للهدف حتى إذا وجدت بعض الصعوبات المتوقعة. يطمح الباحثون فى استخدام الخلية الجديدة الصناعية، كمصل لإنفلونزا الخنازير أو الطيور، وربما مصل لعلاج فيروس الإيدز أو لحل مشاكل إنتاج الطاقة، والتلوث البيئى. يشير أكرم إلى الخلية المرسومة أمامه على أوراق البحث، «مازال العلماء غير قادرين على خلق الخلية نفسها، هذا الوعاء الذى تتم داخله جميع العمليات الحيوية، لأنه لا يمكن وضع الجينوم الجديد فى طبق وانتظار أن يصنع خلية مخلقة». وهذا لا يتعارض مع كون الإنسان خليفة الله فى الأرض، وعليه أن يستمر فى أبحاثه دون انقطاع. «خلية فينتر ليست مخلوقة من العدم»، هكذا يؤكد د.أكرم، لأنها تعتمد على أسس وقواعد اكتشفها الباحثون من البحث الدائم فى ما خلق الله. ولكنهم لم يخلقوا القواعد، بل يحاولون التطوير والتوصل إلى نتائج تلاءم احتياجات البشر الجديدة، لأن الخلق من العدم صفة احتفظ بها الخالق لنفسه. والباحث إذا حاول أن يصنع إنسانا، عن طريق نقل جميع الأعضاء له، لن يستطيع أن يجعله يحيا لأن أسرار الروح فقط عند خالقها، هو القادر على إيجادها من العدم طبقا لقول د.أكرم. وهذا لا يقلل من أهمية ما حققه فينتر ومساعدوه، لأنهم خلقوا حياة جديدة، عندما توصلوا إلى خلية مخلقة معمليا بشفرة وراثية خاصة ليس لها مثيل فى الطبيعة، ولكنها ليست من العدم. البحث الجديد لا يتحمل فينتر صاحب براءة الاختراع تبعيته، إذا ما تحولت الخلية إلى بكتيريا فتاكة، فى حالة تفاعلها مع الحياة خارج المعمل. وهذا ما يحدث مع الفيروسات الجديدة التى لم نسمع عنها من قبل، مثل انفلونزا الخنازير، الطيور، والإيدز المدمر للجهاز المناعى، كل هذه الفيروسات كانت آمنة ثم تحورت وأصبحت تصيب الإنسان، وفقا لتفسير د.أكرم، بفعل التلوث البيئى، أو ربما نتيجة للهندسة الوراثية.