يمثل القطاع التكنولوجى أحد أهم أولويات الأمن القومى الإسرائيلى، فهو يشكل 18% من الناتج المحلى الإجمالى، و30% من دخل الضرائب. ووفقا لتصريحات مسئولى الحكومة، تأثر هذا القطاع سلبا بسبب حرب غزة؛ حيث تم استدعاء نحو 15% من العاملين فى القطاع للاحتياط. ترتب على ذلك تراجع قدرة إسرائيل على تلبية احتياجات عملاء شركات التكنولوجيا لديها من جهة، وزعزعة أمن مراكز الأبحاث التى تعمل على مشروعات فى إسرائيل، على غرار مايكروسوفت، وجوجل. تعد شركات التجسس السيبرانى أحد أهم الركائز التى تستند إليها التكنولوجيا الإسرائيلية، بل تمثل قيمة مضافة تتفوق بها على غيرها من مختلف دول العالم التى تتهافت على الاستفادة من خدمات تلك الشركات مقابل دفع مبالغ مالية هائلة؛ وهو الأمر الذى جعل مسئولين إسرائيليين سابقين يتجهون نحو تأسيس تلك الشركات كرئيس الوزراء الأسبق «إيهود باراك». اللافت فى الأمر هو أن تلك الشركات تدعى تقديم خدماتها تحت مظلة ما يسمى ب «وهم الأخلاق» كمحاربة الإرهاب والجريمة على سبيل المثال؛ إلا أنها فى واقع الأمر تستهدف شخصيات معينة مثل: السياسيين، والدبلوماسيين، والصحافيين، والمعارضين وغيرهم، لتحقيق أغراض أمنية واستخباراتية فى انتهاك صارخ لقواعد الخصوصية والديمقراطية. هناك العديد من الشركات التى تعمل فى هذا المجال فى إسرائيل، إلا أن هناك شركتين أساسيتين ذاع صيتهما فى السنوات الأخيرة بعد ظهور تسريبات بقوائم أسماء لشخصيات عامة من مختلف دول العالم تم اختراق هواتفهم المحمولة، وهاتان الشركتان هما: أولا: مجموعة إن إس أو NSO Group هى شركة خاصة تأسست فى العام 2010 على يد «نيف كرمى»، و«شاليف هوليو»، و«عمرى لافى»، ويبلغ عدد موظفيها حوالى 860 موظفا، يعمل 550 منهم فى مجال البحث والتطوير، ويزيد عدد عملائها على 60 عميلا فى أكثر من 40 دولة. تدعى الشركة أن جميع عملائها من الوكالات الحكومية ويحصلون على تراخيص استخدام «بيجاسوس» Pegasus، أحد أكثر أنظمة المراقبة والتجسس السيبرانى تطورا وتوغلا على مستوى العالم، بغرض مكافحة الإرهاب والجريمة. يأتى على رأس عملائها المكسيك، التى تعتبر سوقا ضخمة لشركات التجسس الإلكترونى. وعلى الرغم من تأخر شركة NSO فى اقتحام هذه السوق مقارنة بشركات تجسس أخرى مثل: مجموعة جاما (مقرها المملكة المتحدة) وشركة Hacking Tea (مقرها ميلانو)، إلا أنها من خلال نظام «بيجاسوس» نجحتْ فى الانخراط بقوة داخل هذه السوق، معتمدة على قدرتها الفائقة على التسويق والوصول إلى الأشخاص المناسبين. تتعامل الشركة مع مسألة حتمية التحديث المستمر لنظام «بيجاسوس» من منطلق أنه يقوم بدور كبير فى إنقاذ أرواح عشرات الآلاف من البشر بفضل قدرته على تتبع مسار العمليات الإرهابية والإجرامية، واكتشاف منفذيها قبل ارتكابها. لذا كان المختصون فى مجال الأمن القومى هم الفئة الأكثر إقبالا على «بيجاسوس». يعتمد «بيجاسوس» على مبدأ الإغراء Temptation، بمعنى أن الرسالة التى يتم إرسالها للهدف يجب أن تكون جذابة بالنسبة إليه، ولذلك يقضى المحققون بضعة أسابيع فى جمْع معلومات مفتوحة المصدر حول الهدف كأسماء المقربين له، وهواياته، واهتماماته، وميوله. وبمجرد النقر على الرسالة النصية القصيرة، يتم تثبيت النظام تلقائيا على الهاتف، ومن ثم التوصل إلى سائر المعلومات الموجودة عليه. لم يقتصر «بيجاسوس» على تتبع المجرمين فحسب، إنما كان للأبرياء نصيب منه؛ فقد تم استخدامه على نطاق واسع للتجسس على رؤساء دول وأكاديميين ودبلوماسيين ورجال أعمال ونشطاء حقوقيين ومعارضين سياسيين وصحافيين، الأمر الذى دفع بشركة واتساب فى العام 2019 إلى رفْع دعوى قضائية على شركة NSO فى الولاياتالمتحدةالأمريكية مدعية أن 1400 شخص من مستخدميها، تم استهدافهم خلسة بواسطة نظام «بيجاسوس» خلال أسبوعيْن فقط. ثانيا: شركة باراجون سوليوشنز Paragon Solutions تأسست فى تل أبيب فى العام 2019 على يد مجموعة من الشخصيات العسكرية البارزة مثل: «إيهود شنيورسون»، القائد الأسبق لوحدة الاستخبارات النخبوية 8200 التابعة للجيش، و «إيدان نوريك»، المدير التنفيذى، و«إيغور بوغودلوف»، المدير التكنولوجى، و«لياد أبراهام»، مسئول الأبحاث المركزى. هذا فضلا عن رئيس الوزراء الأسبق «إيهود باراك» الذى يرأس مجلس الإدارة. تصف الشركة نفسها بأنها شركة ناشئة توفر لعملائها «أدوات أخلاقية لتعطيل التهديدات المستعصية، والقدرات السيبرانية والطب الشرعى لتحديد البيانات الرقمية وتحليلها، وتدريب القوى العاملة السيبرانية، وتحليل البنية التحتية الحرجة، والتخفيف من حدة التهديدات». يمول الشركة العديد من المستثمرين الأمريكيين، فى مقدمهم صندوق «باتيرى» Battery للاستثمار حيث ضخ حوالى 10 ملايين دولار فى أثناء تأسيس الشركة. ولا يقتصر التعاون الأمريكى على الدعم المادى فحسب، وإنما يمتد إلى التعامل التجارى المباشر. فبحسب تقرير قدمه موقع Wired فى أكتوبر 2024، فإن هيئة قوانين الهجرة والجمارك الأمريكية ICE أبرمت صفقة مع الشركة بقيمة مليونى دولار من أجل الوصول إلى خدمات الشركة والاستفادة منها. وفى فبراير 2025، خرج أحد أعضاء مجلس إدارة الشركة فى بيان واضح يشير إلى أن الحكومة الأمريكية وهيئاتها الفيدرالية هى من أبرز عملاء الشركة، فضلا عن أن شركة AE Industrial Partners تحاول الاستحواذ على الشركة فى الوقت الحالى فى صفقة من المتوقع أن تصل قيمتها إلى 900 مليون دولار. وبحسب أداء الشركة التجارى، قامت الشركة الاستثمارية بدفع 450 مليون دولار كدفعة أولى للاستحواذ على الشركة بشكل كامل. تستهدف خدمات «باراجون» منصات الرسائل النصية الفورية ومنصات التواصل السريعة مثل: «واتساب»، و«تليجرام»، فضلا عن خدمات البريد الإلكترونى من «جوجل»، وتعتمد هذه الآلية بشكل مباشر على برمجية «جرافيت» Graphite التى طورتها الشركة بنفسها. تتمتع خدمات «باراجون» بخصوصية فريدة فى ما يتعلق بالتجسس على الأهداف المهمة، إذ لا يمكن التخلص منها بسهولة، وقد تحتاج إلى التخلص من الجهاز بالكامل بغية تأمين الخدمات والعودة إلى الوضع الطبيعى.
• • • ذاع صيت الشركة فى أغسطس 2024 عقب قيامها باختراق هاتف المتهم بإطلاق النار على الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» خلال حملته الانتخابية. وفى يناير 2025، أرسلت شركة «ميتا» تنبيها إلى 90 شخصا فى إيطاليا بأن تطبيقات «واتساب» الخاصة بهم، تم اختراقها من طرف برامج تجسس من الدرجة الحكومية، وذلك لأخْذ الحذر والاحتياط اللازم وحماية البيانات على النحو الملائم. ومن بين هؤلاء، رئيس تحرير موقع الأخبار الإيطالى «فان بيج» FanPage، و«لوكا كاسارينى» من منظمة «ميديتيرانيا» (Mediterranea) لإنقاذ المهاجرين فى البحر الأبيض المتوسط. والجدير بالذكر أن «كاسارينى» انتقد الشرطة الإيطالية فى وقت سابق بشكل لاذع حول آليات تعاملهم مع المهاجرين غير الشرعيين القادمين عبر البحر الأبيض المتوسط. تضاربت ردود أفعال الحكومة الإيطالية بعد ظهور التسريب والأخبار المتعلقة به. فمن ناحية، قامتْ بتعليق جميع العقود الجارية مع شركة «باراجون»، ومن ناحية أخرى لم تدن الهجوم أو حتى تحاول معرفة سببه أو معرفة من تعاقد مع الشركة من أجل تنفيذه. أما بالنسبة إلى إدارة «ميتا»، فقد أشارت إلى أن الهجوم اعتمد على ثغرة لا تطلب من المستخدم التفاعل مع أى رابط أو ملف - كما هو الحال مع بيغاسوس - إنما تمت إضافة الأهداف إلى مجموعة «واتساب» ثم إرسال ملف «بى. دى. إف» نصى. ولأن آلية عمل «واتساب» مع ملفات «بى دى إف» تضمن تقييم الملف وتحميله بشكل تلقائى من دون أى تدخل من المستخدم، فإن البرمجية تم تثبيتها فى الهاتف بشكل سريع لتبدأ عملية الاختراق. هذا الأمر يجعل مقاومة الاختراق، والحماية منه، أصعب من الهجمات السيبرانية التى تعتمد على تفاعل المستخدم مع رابط أو ملف. لذا أطلقت «واتساب» على هذا الهجوم اسم «زيرو كليك» Zero-Click. كما قامت الشركة بإصلاح الثغرة وتجاوزها لحماية المستخدمين عبر إرسال تحديث فورى للتخلص منها. فى ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن التجسس السيبرانى هو إحدى الآليات الأساسية التى تعتمد عليها إسرائيل لفرْض السيطرة والنفوذ، وتحقيق مكاسب مالية ضخمة، مستندة فى ذلك إلى الترويج لفكرة «الاختراق الأخلاقى» المتمثل فى أهمية استفادة الدول من تلك التكنولوجيا لحماية أمنها القومى وتتبع المجرمين ومنع الجريمة قبل وقوعها.