شهدت مصر خلال الربع الأول من عام 2025 ارتفاعًا حادًا وغير مسبوق فى قيمة وارداتها من الغاز الطبيعى، حيث بلغت نسبة الزيادة 157,4% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وفق بيانات رسمية صادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء. لم يكن هذا الارتفاع الحاد فى واردات الغاز الطبيعى متوقعًا ولا مقبولًا، ما فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات مشروعة حول طبيعة هذا التحول فى مسار سياسات الطاقة الوطنية. فالدولة التى لم يمضِ على إعلانها تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز سوى أعوام قليلة، بل والتى سعت إلى ترسيخ موقعها كمصدّر للأسواق الأوروبية والآسيوية ومركز إقليمى للطاقة، تجد نفسها اليوم فى وضع يفرض استيراد الغاز بوتيرة متسارعة، وبتكلفة مرتفعة تفرضها الأسواق الحاضرة. هذا التناقض لا يمكن عزله عن غياب فلسفة واضحة ومستقرة لتخطيط الطاقة، فلسفة تستند إلى معايير التنبؤ والاستباق والتوازن بين المصادر، وتمنح الأولوية لبناء هوامش أمان استراتيجية تغنى عن اللجوء المتكرر إلى المعالجات الطارئة والاستجابة للصدمات. لقد أثبتت التجربة، أن غياب التخطيط المتكامل للطاقة، القائم على رؤى طويلة الأجل، تنصهر فيها اعتبارات الاقتصاد والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية، هو أقصر الطرق نحو أزمات متكررة فى إمدادات الطاقة وتمويلها. فهل نحن إزاء أزمة عابرة يمكن احتواؤها بإجراءات قصيرة المدى، أم أن ما نشهده هو انعكاس لاختلال أعمق فى بنية قطاع الطاقة، وغياب لمعادلة دقيقة تحقق التوازن بين الوفرة والتنوع والاستدامة؟ إن قراءة هذا التحول يجب ألا تتم من زاوية مالية أو تجارية مجردة، بل تتطلب تحليلًا هيكليًا لسلسلة القيمة فى قطاع الغاز الطبيعى، بدءًا من الاكتشاف، مرورًا بالإنتاج، وصولًا إلى النقل والتوزيع والتصدير. فالتوسّع فى الواردات بهذا الشكل لا يمكن تفسيره فقط بارتفاع الطلب المحلى والاستهلاك غير المخطط، بل يُحتمل أن يكون نتيجة تراجع فى قدرة الإنتاج المحلى على تلبية هذا الطلب المتزايد. ويبدو أن عددًا من الحقول الكبرى، وعلى رأسها حقل «ظُهر»، الذى مثّل حجر الزاوية فى معادلة الاكتفاء الذاتى لسنوات، قد بدأ فى التراجع عن ذروته الإنتاجية، سواء بسبب العوامل الفنية أو النضوب الطبيعى أو تأخر أعمال الصيانة والتطوير. كما إن تأخر دخول بعض الاكتشافات الجديدة إلى مرحلة الإنتاج لأسباب تمويلية أو بيروقراطية، يضيف مزيدًا من الضغط على المعروض المحلى. من ناحية أخرى، فإن الاستهلاك المحلى للغاز يشهد نموًا متسارعًا فى ظل الاعتماد شبه الكامل على الغاز فى إنتاج الكهرباء، فضلًا عن توسّع المشروعات الصناعية كثيفة الاستهلاك للطاقة، ومواطن الهدر الكثيرة فى إنتاج وتوزيع الكهرباء (المستهلك الأكبر للغاز الطبيعى فى مصر). هذا الاختلال بين العرض والطلب، إذا لم يُعالج بشكل سريع وحاسم، قد يؤدى إلى أزمة ممتدة تهدد الاستقرار الاقتصادى، ليس فقط على مستوى ميزان المدفوعات، بل أيضًا على مستوى الأمن الطاقى، والصناعى والغذائى، إذ ترتبط قطاعات حيوية بأسعار الطاقة واستمرارية توافرها. • • • الاضطرار إلى استيراد الغاز الطبيعى فى أوقات الأزمات وشح المعروض الطاقى، خاصة عبر تعاقدات قصيرة الأجل أو من خلال السوق الفورية، يضع الدولة أمام تكلفة مرتفعة تفوق بكثير ما يمكن تحقيقه عبر التعاقدات "المخططة" طويلة الأجل، وعقود التحوّط (العقود الآجلة والمستقبلية وعقود الخيارات) ذات الأسعار المستقرة. وتزداد فداحة هذه التكلفة عندما تتزامن عمليات الشراء مع ذروة الطلب العالمى أو عند اشتعال التوترات الجيوسياسية بصورة تقفز بالأسعار وتقلّص المعروض. فى مثل هذه السياقات، لا تقتصر التداعيات على منتجات الطاقة وحدها، بل تمتد لتضغط مباشرة على الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية، الذى يعانى أصلًا من نزيف مستمر بفعل اتساع فجوة الاستيراد فى سلع وخدمات أساسية. وقد قدرت وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية فاتورة توفير الغاز الطبيعى المسال واستيراد المازوت لتوفير احتياجات محطات الكهرباء المصرية والقطاع الصناعى خلال أشهر الصيف بنحو تسعة مليارات دولار (وفقًا لشبكة سى إن إن عن مصدر حكومى مسئول). ومع تراكم هذه الضغوط، يصبح الحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه مهمة أشبه بالمستحيلة دون اللجوء إلى أدوات استثنائية، قد تشمل استمرار تشديد السياسات النقدية، وفرض قيود على تدفق الواردات، حتى وإن كانت من السلع الاستراتيجية. وهو مسار محفوف بالمخاطر، إذ يُنذر بتقييد حركة الأسواق، وتعطيل سلاسل الإمداد، وزيادة معدلات التضخم، بما يفتح الباب أمام موجات من الركود التضخمى يصعب كبحها دون تكلفة اجتماعية باهظة. تجربة دعم الطاقة فى مصر تعكس اختلالًا بين التكلفة الفعلية والسعر الموجه للمستهلك، حيث يتحول الدعم أحيانًا إلى آلية غير عادلة يستفيد منها من يستهلك أكثر وليس الأكثر حاجة، ويزيد من الهدر والتشوهات السوقية. الإصلاح الحقيقى لا يكمن فقط فى تحويل الدعم العينى إلى دعم نقدى مباشر كما فعلت الهند، بل يبدأ بإعادة هيكلة منظومة الإنتاج والتوزيع لتحسين الكفاءة وخفض الفواقد الإدارية والفنية والتعاقدية. ويستلزم ذلك حوارًا مجتمعيًا شفافًا يربط الإصلاح بتحسين الخدمات، وتحويلات نقدية مضمونة للفئات المستحقة، ليصبح الدعم أداة للعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، بدلًا من عبء مالى يثقل كاهل الموازنة العامة، ويشجع على الاستهلاك غير المرشّد. • • • أما على صعيد الإنتاج، فلا بد من توفير بيئة استثمارية جاذبة، قادرة على استقطاب شركات النفط والغاز العالمية، خاصة فى ظل المنافسة الشرسة من دول الجوار. وهذا يتطلب تعديل شروط التعاقد، وتقديم حوافز ضريبية وتنظيمية، وضمان آليات واضحة لتسعير الغاز المنتج محليًا. وفى هذا السياق، يمكن النظر إلى تجربة النرويج، التى نجحت فى تحقيق توازن فريد بين ملكية الدولة للموارد ورقابتها عليها، من جهة، وتمكين القطاع الخاص من العمل بكفاءة وربحية من جهة أخرى. النموذج النرويجى يرتكز على الشفافية والمحاسبة، وعلى استقلالية مؤسسات القطاع فى اتخاذ القرار الفنى بعيدًا عن الضغوط السياسية قصيرة الأجل. ولا يمكن الحديث عن مخرج مستدام من أزمة الغاز المتكررة دون التطرق إلى تنويع مزيج الطاقة فى مصر، خاصة فى شبكة الكهرباء الوطنية، التى يمكن أن تختزل كل المصادر، باعتبار أن الاتجاه نحو كهربة المنتجات هو أحد أهم مظاهر التحوّل الطاقى فى العالم. فبقاء الدولة رهينة للاعتماد شبه الكامل على الغاز فى إنتاج الكهرباء يُعد مخاطرة كبرى، خصوصًا فى ظل ما يشهده العالم من تحوّلات جذرية فى أسواق الطاقة المتجددة. ويشكّل النفط نسبة 63% من إجمالى مزيج الطاقة فى مصر، حيث يستخدم بشكل رئيس فى قطاعات النقل والصناعات البتروكيماوية. وتستهدف مصر من خلال استراتيجية الطاقة 2040 الوصول بنسبة الطاقة المتجددة من إنتاج الكهرباء إلى 65,7%، والطاقة النووية إلى 8%، والباقى من الوقود الأحفورى، كما تستهدف رفع مساهمة الطاقة المتجددة من 3% من إجمالى استهلاك الطاقة إلى نسبة 34%، كذلك رفع نصيب الكهرباء من إجمالى الطاقة المستهلكة من 29% حاليًا إلى 38% مما يمثل تحرك إيجابى بإتجاه التحول الطاقى. ويبدو أن مديونية قطاع الكهرباء لصالح وزارة البترول، وطريقة إدارتها، ستظل عقبة مؤسسية أمام العديد من الإصلاحات التى قد تستوجب دمج الوزارتين فى وزارة للطاقة. • • • أما على الصعيد اللوجستى، فتمتلك مصر بنية تحتية متقدمة نسبيًا فى مجال تسييل الغاز الطبيعى، عبر محطتى إدكو ودمياط، ما يمنحها ميزة تنافسية للاضطلاع بدور إقليمى كمركز لتجارة وتداول الغاز. غير أن ترجمة هذا الطموح إلى واقع مستدام يتطلب إدارة حصيفة تضمن ألا يأتى التوسع فى الصادرات على حساب احتياجات السوق المحلية، كما شهدنا فى فترات سابقة حين تسببت التزامات التصدير فى نقص إمدادات المصانع ومحطات الكهرباء. وفى هذا السياق، تبرز الأهمية المتزايدة لمشروعات الربط الإقليمى، ولوحدات إعادة التغويز العائمة كآلية مرنة لتعزيز الأمن الطاقى فى أوقات الذروة والأزمات المفاجئة. لكن الاستفادة القصوى من هذه الوحدات تتوقف على جاهزية الموانئ المصرية لاستقبالها، من حيث البنية الفنية ومرافق الربط بالشبكة القومية للغاز. فتحقيق هذا التكامل اللوجستى بين البنية التحتية الحالية وتوسعات الاستيراد الطارئ يمثّل عنصرًا حاسمًا فى بناء منظومة طاقة أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للصدمات، دون الإضرار بالأمن القومى أو مصالح المستهلك المحلى. كذلك يمكن أن يلعب التحول الرقمى دورًا مفصليًا فى تحسين كفاءة قطاع الطاقة، عبر تطبيق أنظمة ذكية لرصد وتحليل الاستهلاك، والاستثمار فى بنى تحتية تعتمد على البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى، ما يقلل من الفاقد فى الشبكات ويحسن الكفاءة التشغيلية. وتجربة كوريا الجنوبية تقدّم نموذجًا مبهرًا، إذ تمكّنت من خلال تبنّى منظومة طاقة ذكية من تقليص الفاقد، ورفع كفاءة إنتاج وتوزيع الكهرباء، ما ساهم فى تقليص التكاليف وتعزيز الاستقرار السعرى دون المساس بجودة الخدمة أو الأمن الطاقى. فى الختام، تعكس أزمة ارتفاع واردات الغاز ضرورة إعادة بناء سياسات أمن الطاقة فى مصر على أسس مستدامة وعادلة. الأزمة قد تشكّل فرصة لإطلاق حوار وطنى واسع، يؤسس لاستراتيجية شاملة تستند إلى الكفاءة والعدالة والأمن القومى، مستفيدة من التجارب الدولية. التحديات حقيقية، لكن تجاوزها ممكن بتوافر الإرادة والرؤية والقرار الحاسم.