• عندما يكون التخطيط العمرانى لغة بصرية للتعتيم على حقيقة أهداف الاحتلال الإسرائيلى عام واحد من الحرب أعاد قطاع غزة 70 عاما إلى الوراء، هكذا أعلنت وكالة الأونروا منذ أيام ضمن تصريحاتها عن الخراب المعمارى والإنسانى فى قطاع غزة، لكنها هنا كانت تتحدث بشكل مادى بحت يشمل جميع مظاهر الحياة خاصة المعمارية والبنية التحتية التى سوف تحتاج إلى سنوات لكى تعود كما كانت. وفى نفس الصدد علت أصوات عالمية تشير إلى أن ما يحدث فى قطاع غزة لا يهدف سوى لتوسيع رقعة المستوطنات الإسرائيلية، وتقنين المساحات التى يعيش فيها الفلسطينيون خاصة فى المدن المحتلة التى أعلنت إسرائيل الاستيلاء عليها فى أعقاب حرب 1967. نعلم علم اليقين أن لا أهمية للحجر فى مقابل المجازر الإنسانية والأرواح التى نفقدها يوميا ولكن أليست الحرب فى الأساس على المكان؟ أليس الصراع هو صراع على الأرض؟ وبالعودة إلى ماضى المخطط الصهيونى سوف يتبين لنا بشكل أكبر وأوضح أن ما يحدث الآن لا يهدف إلا لمزيد من السيطرة على الأرض وإعادة ترسيم حدودها لا لرسم حدود دولة بل إعادة بناء الأحياء داخل المدن والقرى فى القطاع للتضييق على سكانه من الفلسطينيين ومن ثم السيطرة الأمنية ثم المزيد من جرائم القتل والتشريد والانتهاك للإنسانية بعيدا عن أنظار العالم وبشكل يومى، وهذا صراع طويل يحدث على أرض الواقع دون هوادة، بل مخطط منفصل يسرى وفق خطة زمنية لها رجالها الذين يعكفون على تنفيذها بعيدا عما يمكن أن يحدث بشكل معلن تحت شعار الهندسة المعمارية. فى كتاب أرض جوفاء الصادر فى ترجمته العربية عن الشبكة العربية للدراسات والنشر ودار مدارات عام 2017 أى بعد عشر سنوات من صدور نسخته الأولى عام 2007 والتى قام بترجمتها للعربية باسل وطنه، يرصد الكاتب إيال وايزمان مراحل تنفيذ هذا المخطط التى بدأت بشكل رسمى وتوثيقى داخل المؤسسات الإسرائيلية عقب حرب عام 1948. يبدأ الكاتب بالحديث عن المستعمرات التى انتشرت على حدود الضفة الغربية والمناطق الجبلية بشكل منفصل وغير متجانس والتى جاءت نتيجة للقوانين التى نصت عليها اتفاقية أوسلو التى ساعدت فى هذا التوسع الاستيطانى فى غفلة من العالم لوجود العديد من الثغرات والاستثناءات التى استطاع الكيان الصهيونى استغلالها على أكمل وجه. وفى نفس الصدد يعود الكاتب إلى عام 1949 لاتفاقية الخط الأخضر الذى كان يفصل بين الأراضى التابعة للاحتلال والأراضى التى احتلت فيما بعد عام 1967 مشيرا فى ذلك إلى خرق الاحتلال لهذه الاتفاقية أيضا ومحاولته السيطرة على تلك الأراضى بما فيها حدود دولية أى مع دول أخرى مثل مصر وسوريا وهو ما قام به بالفعل باحتلال سيناء والسيطرة على الجولان فيما بعد بافتعال مشكلات على حق الانتفاع بالماء بين قوات الجيش السورى وقوات الاحتلال الإسرائيلى. ثم يتطرق الكاتب إلى واحدة من أهم مراحل الاستيطان والسيطرة المعمارية التى حدثت فى أعقاب هزيمة 1967 وذلك فى مدينة القدس، فسرعان ما تلقى الجيش رسالة شفهية بإخلاء بعض الأحياء ذات الكثافة السكانية الأقل على وجه التحديد تحسبا لأى قرار مفاجئ قد يصدر من مؤسسات دولية تطالبهم بوقف الحرب والتخلى عن الأرض الجديدة التى اكتسبوها خلال المعركة. وذلك بوضع خطة يصعب معها أى إعادة تقسيم للمدينة بعد السيطرة على تلك الأحياء، وبالفعل أصبح هناك 12 حيا يهوديا متباعدا ومتجانسا فى آنٍ واحد مع الأماكن المحتلة فى المدينة بحيث تم خلق حلقة حول المدينة بأحيائها وقراها وكأنك شطرت المدينة الواحدة إلى نصفين. لم يكتفِ الجيش بذلك بل حرص على بناء مناطق صناعية حول المدينة أيضا ولكن خارج أحيائها بحيث يسهل الحصول على القوى العاملة التى تتلقى عائدا ماديا زهيدا من أهالى المناطق المحتلة للمزيد من الإذلال وتضييق الخناق عليهم لعلهم يتركون المكان ويرحلون من تلقاء أنفسهم باللجوء إلى المخيمات وربما ترك مدينتهم إلى الأبد. لم تكتفِ الرؤية المعمارية الاستيطانية بالسيطرة على المدن بهذا الشكل فقط، فقد ظهرت فى أعقاب الانتفاضة الثانية عام 2000 ما عرف بالجدار الثانى وهو عبارة عن مناطق سكنية أقيمت خارج حدود المدينة قامت حكومة الاحتلال ببناء شبكات طرق وبنية تحتية تربطها ببعضها البعض لتصبح القدس الآن مدينة مترامية الأطراف تصل إلى رام الله فى الشمال وبيت لحم فى الجنوب مما أدى إلى عزل الفلسطينيين عن مراكزهم الثقافية فى القدس. وقد أدى ذلك فيما بعد إلى ظهور شبكات طرق تحتية وحفر الأنفاق تحت العديد من المدن والتى يتهمون أصحاب الأرض ببنائها وهى فى الأصل مخطط صهيونى آخر لتجويف الأرض للمزيد من السيطرة الأمنية ومن ثم إخلاؤها. بالوصول إلى هذا الجزء يتطرق الكاتب إلى مشكلة غير معلنة واجهت الكيان الاستعمارى أثناء إعادة الهيكلة للطرق والمدن، وهى خلق معمار ذات هوية تجمع بين إسرائيل والقدس الأمر الذى تطلب منهم العودة إلى الوثائق التى تنص على الطريقة التى بنيت على أساسها المدن الفلسطينية خاصة القدس والتى لسخرية القدر أكدت كذب الرواية الإسرائيلية بأحقيتم التاريخية والدينية فى فلسطين. وهنا تتجلى حقيقة أن الهدف الوحيد من محاولاتهم لخلق ذلك التجانس المعمارى من أجل أن تصبح العمارة لغة بصرية للتعتيم على حقيقة أهداف الاحتلال. وقد أدت لغتهم المعمارية البصرية تلك إلى المزيد من المحاولات لربط القديم بالجديد أو ما عرف بربط الأركيولوجيا بالنسيج الحياتى، والأركيولوجيا هنا تعنى علم الآثار أو علم دراسة البقايا المادية التى خلفها الإنسان وذلك فى محاولة للبحث عن أى دليل يثبت أحقية وجودهم على أرض فلسطين. إلى هنا قد يبدو التخطيط المعمارى يحدث بشكل سلمى، أى بهدوء دون تدمير لأى معلم من معالم المدن التى حتما يتعجب القارئ لماذا يتركونها كما هى؟ تأتى الإجابة من خلال رصد الكاتب لعمليات التدمير التى تمت خلال حرب 1967 قبل إعلان وقف إطلاق النار والتى كان منها على سبيل المثال تدمير حى المغاربة الذى أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن قوات الجيش قامت به دون الرجوع إليها. الأمر الذى اضطر الحكومة الإسرائيلية إلى الإعلان عن حظر البناء فى البلدة القديمة بعد الحرب بشهرين واعتبارها منطقة أثرية تجرى فيها أبحاث أركيولوجيا أى أبحاث أثرية يهودية، وهذا منهج آخر من مناهج إقامة الدولة مستندين فيه إلى تصريح بن غوريون فى مذكراته: أن الحق اليهودى فى فلسطين ينبنى على حفرنا التربة بأيدينا. فالوجود فى هذه الحالة يستند على الزراعة والتنقيب، وقد اعتبرت قوات الاحتلال الصورة التى عرفت بها فلسطين فى خارطتها الأصلية غطاء للمدينة التوراتية القديمة الموجودة فى باطن الأرض ومن ثم يأتى حق الملكية فهم يدعون أيضا أن ما يقومون ببنائه من مستوطنات يشبه ما يبحثون عنه فى باطن الأرض. ولكن عمليات الحفر الأثرية التى ما زالت مستمرة حتى الآن فى العديد من المدن الفلسطينية بمشاركة مؤسسات أثرية عالمية بعيدا عن عيون الكاميرات إلا إلى الكشف عن المزيد من الدول التى تكالبت للاعتداء على فلسطين فى عصور مختلفة وكان مصيرهم فى النهاية تحت الأرض. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى روايتين من أهم الأعمال الأدبية التى وقفت على يوميات هذه العمليات الحفرية وهى رواية قناع بلون السماء للكاتب باسم خندقجى، ورواية سماء القدس السابعة للكاتب أسامة التعيسة، وذلك للوقوف على الخسائر المادية والبشرية والتاريخية التى قدمتها فلسطين مرغمة لتحقيق هذا الجنون الاستعمارى للأرض والتاريخ. بالوصول إلى هذا الجزء يقف الكاتب أمام أهم مراحل إعادة الهيكلة الهندسية التى كشفت قصور المعمار الإسرائيلى ومن ثم كشف زيف وجوده لافتقاده لأية هوية محددة مشيرا فى ذلك وبالتفصيل إلى عملية إعادة بناء كنيسة الخراب، والتى لم تودِ إلا إلى افتتان المعمارى الإسرائيلى بالعمارة الفلسطينية مما زاد محاولة التعتيم على الهوية الفلسطينية للمدينة وخلق هوية بديلة أكثر تعقيدا ووضع السياسات الإسرائيلية فى مأزق. الأمر الذى اضطر السلطات الإسرائيلية إلى ما عرف بإعادة إنتاج البلدة القديمة أى مصادرة الأملاك وإعادة توزيعها وتزويد المبانى بطوابق إضافية لاستيعاب المزيد من الكثافة السكانية. ومن ثم ظهر مصطلح التهجير القصرى الذى يطلق عليه الجانب الإسرائيلى الترحيل الصامت وقد تزامنت هذه العملية مع تولى آرييل شارون منصب الوزير المكلف بشئون المستوطنات. فى النهاية يتجلى المعنى القابع خلف عنوان الكتاب واضحا والذى يحاول الكاتب من خلال الفصول التسعة ورحلة تجوله بين الماضى والحاضر بالتاريخ والجغرافيا مستندا إلى وثائق ومستندات وصور أرشيفية ألحقها بالكتاب كمادة أساسية أن يشرحه فى مراحل متعددة مرت بها القضية الفلسطينية، والتى توكد أن هذا الجهد الذى يبذله الاحتلال للسيطرة على الأرض لا يعنى سوى أنهم يقفون على أرض خاوية صنعوها بأيديهم والأرض الجوفاء مهما طال الزمن مصيرها للانهيار ومن ثم يمكن أن تبتلعهم فى أى لحظة.