قراءة أدبية عميقة، جاءت فى هيئة نصوص ممتعة تلقى الضوء على رحلة ومشوار نجيب محفوظ، وتأثره وتأثيره فى العديد ممن حوله، أبدعها الكاتب محمد شعير فى كتاب «البدايات والنهايات.. أعوام نجيب محفوظ» الصادر عن دار الشروق، ليضم مجموعة موسعة من الصور والاقتباسات الموثقة والمعلومات عن محفوظ. وفى الوقت الذى يحتفل فيه الوسط الأدبى والثقافى بذكرى ميلاد نجيب محفوظ فى شهر ديسمبر، نلقى الضوء على أبرز المحطات الخاصة بكتاب محمد شعير، الذى جاء فى هيئة جزأين، الأول يتحدث عن بدايات نجيب محفوظ، طفولته، علاقته بوالدته وأهله وكيف انعكس كل ذلك على إبداعاته المستقبلية، وهو ما ندركه من خلال سيرة ذاتية كتبها نجيب محفوظ وهو يبلغ من العمر 18 عاما وأطلق عليها اسم «الأعوام» على غرار «الأيام» لعميد الأدب العربى طه حسين. ليعاين القارئ الجزء الثانى من الكتاب، ليكون أشبه بتحليل معمق وفريد من نوعه، لرواية أصداء السيرة الذاتية، وهى آخر أعمال محفوظ، ومن خلالها وبمنظور جذاب يقدمه محمد شعير بشكل سلس ومنمق، نستطيع أن نفهم طريقة تفكير محفوظ فى المحطات الختامية من حياته. يبرع شعير فى كتابة سيرة موازية ل «طفولة نجيب محفوظ»، ليصل عبر قراءة أدبية عميقة إلى أن هذا النصّ يشبه نواة تحطّمت فى «الانفجار العظيم» إلى عشرات الأعمال الإبداعية العظيمة، وصولًا إلى نصوص «أصداء السيرة الذاتية» التى قطع فيها محفوظ نفسه رحلة بحث معكوسة عن طفولته. تأتى واحدة من أهم الأدوات التى استخدمها محمد شعير فى كتابه، هو عدم اللجوء إلى المط والتطويل، بطريقة ساعدت القارئ على أن يضاعف حجم فضوله للخوض فى عالم محفوظ، ليقدم فى الوقت ذاته دلائل وإشارات واضحة حول الكيفية التى يمكن أن ينتهجها القارئ فى اتخاذ ترتيب معين نحو قراءات الأعمال المختلفة لأديب نوبل العالمى. كما جاءت واحدة من أهم نقاط قوة كتاب «البدايات والنهايات.. أعوام نجيب محفوظ»، أنه لم يقتصر على تناول النواحى الأدبية بشكل خالص ولم يقع فى فخ المباشرة، وإنما اصطحب القارئ فى رحلة لوصف أحوال مصر وأهلها يوم ميلاد محفوظ 11 ديسمبر 1911 ويصف مسرح سلامة حجازى وجورج أبيض وما تكتبه الصحف، ويوضح أن مقاومة الاحتلال فى الشارع كان يقودها الحزب الوطنى بقيادة محمد فريد والصحافة بقيادة عبدالعزيز جاويش. تطرق شعير إلى أن سعد باشا زغلول كان وزير التعليم قبل انضمامه للشعب ضد الاحتلال، ليطوف بنا فى إطلالة حول تعداد سكان القاهرة الذى لم يكن قد تخطى 700 ألف نسمة حينها، لتتشابك الخيوط مع مبدعين آخرين، ففى عام مولد محفوظ سافر أحد الفنانين الرواد محمود مختار إلى باريس لدراسة النحت، كما أوشك محمد حسين هيكل على الانتهاء من كتابة أول رواية مصرية «زينب» وأطلق طلعت حرب فكرة إنشاء بنك مصر وتم اغتيال بطرس غالى مما أدى إلى فتنة بين نسيج المجتمع المصرى. أجاد محمد شعير من خلال الوثائق التى استطاع أن يحصل عليها، أن يقدّم لنا صورة جديدة عن حياة محفوظ فى طفولته وشبابه، عبر نواحى تبتعد بنا عن الصور التقليدية الخاصة بأديب نوبل، الأمر الذى لمسه الدكتور محمد أبو الغار، الذى قال عن الكتاب: استطاع شعير بمجهود كبير أن يحصل على صورة من معظم الأوراق القديمة والحديثة أهمها نص ذكريات الطفولة «الأعوام» والتى كتبها متأثرا بسيرة طه حسين «الأيام» ويقدر شعير أنها كتبت عام 1929 وكان عمر محفوظ 18 عاما وهو نص هام ينشر لأول مرة يتحدث فيه عن طفولته بدءًا من الرضاعة من ثدى أمه، ووصف لبيت الجمالية والسطوح وشجر اللبلاب وضرب أمه له لشقاوته والخوف من العفاريت والثعابين، وأخته التى طلقت بعد أن أنجبت 3 أطفال، ويصف حماة أخته التى كانت تخيف محفوظ. يثبت شعير من خلال كتابه الصادر عن دار الشروق، حجم تأثير نجيب محفوظ فى أجيال متتابعة من القراء بطول وعرض الوطن العربى، ممن أثر نجيب محفوظ فى ذائقتهم الأدبية، واختيارهم على مدار سنوات لأعماله لكى ينهلوا منها إبداعات تخص الحارة المصرية وتناقضاتها وأثره فيما يتعلق بالأفكار الفلسفية والأدبية، ليمهد شعير للقارئ بأن كل ذلك كان له علامات ودلائل للنبوغ منذ الطفولة المبكرة. جاء الأسلوب الخاص بالكاتب الكبير محمد شعير فى كتابه «البدايات والنهايات.. أعوام نجيب محفوظ»، سلسًا ورشيقًا، يتناسب تمامًا مع عدم كون الكتاب هو نقد أدبى أو تناول ومعالجة لكتابات نجيب محفوظ، وإنما عالم موازٍ لحياة محفوظ ونشأته، لذا يشعر القارئ كما لو أنه فى رحلة داخل حياة نجيب محفوظ يراها بعينه، ويلمس بنفسه الكيفية التى أصبح بها هذا الطفل العنيد، واحدا من أهم أدباء العرب والعالم. يخبرنا محمد شعير أن الأدب بأكمله كاد أن يفقد أديب نوبل، الذى كان على بعد خطوة واحدة من الانطلاق بكل جوارحه إلى عوالم الفلسفة، قبل أن يخطو مجددا نحو عالم الأدب ليصبح واحدًا من أهم أيقوناته عبر التاريخ. تجدر الإشارة إلى أن محمد شعير؛ ناقد وصحفى ولد فى قنا عام 1974، درس الأدب الإنجليزى، صدر له «كتابات نوبة الحراسة: رسائل عبدالحكيم قاسم»، و«مذكرات الآنسة أم كلثوم»، و«أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة»، الحاصل على جائزة ساويرس فى النقد الأدبى عام 2019، كما وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد.